غزة - فلسطين اليوم
تبحث "مادلين" في رسائل هاتفها القديمة، فتعثر على رسالة مكتوب فيها "سأبقى معك للأبد ..!" أرسلها إليها "ساهر".. أين أنتَ الآن!؟.. أسئلة تباغتها اليوم ليس لها جواب إلا صدى ذكريات يوم خطبتها حينما جاء ذلك الشاب الخجول يسألها على استحياء عن اسمها وعمرها.. حينها عقدا قرانهما.
في الحقيقة لم يكن عقد قران فقط بل اكتشاف روحين، فـ"مادلين" التي كانت تعرف أن الفصول الأربعة دوما ستظل أربعة وأن هناك شمسًا واحدة وبدرًا واحدًا، اكتشفت أن الأمور تغيرت فأضفت بدرًا ثانيا وشمسا ثانية وفصلا خامسًا يزهر فقط على قلبها اسمه "ساهر".
"منذ 13 يومًا لم أره، كان منشغلا بالعمل، لكنني كنت أرقب يوم السبت بفارغ الصبر، أنتظر قدومه إليّ، ولم أدرك أنه سيأتي إليّ جثة هامدة " تبدأ مادلين حديثها: "تمنيت لو أعطيته من دمائي ليظل على قيد الحياة؛ لو كان باستطاعتي فعل أي شيء لفعلته لأجل أن يبقى على قيد الحياة".
"لقد حرمني الاحتلال من فرحة تحلم بها أي عروس، كان ساهر أجمل هدية أرسلها لي القدر".
سِلفي وقميص جديد
البداية؛ يوم جديد يطل برأسه على عائلة "عثمان " بعد أن حل الصباح.. الشمس تفترش قلب السماء وتدلي بجدائلها الذهبية على محافظة رفح؛ ساهر بعد أن ارتدى قميصا أبيض تماما مثل صفاء قلبه، وبنطالًا وحذاءً جديدين اشتراهما، يطلب من والدته تقييم مظهره وأناقته بعد أن التقط صورة "سلفي" بهاتفه كانت هي الذكرى الأخيرة له، لم تطل الرد: "حلوات: زي القمر طالع".
اعتقدت للوهلة الأولى أن موعد زفاف ابنها المقرر في فبراير/ شباط القادم قد اقترب، قبل أن تنظر في التقويم الشهري بهاتفها ليظهر لها التاريخ(27 سبتمبر/ أيلول 2019) ممازحة ابنها: "نفسي تمر الأيام .. ويجي يوم عرسك حتى نفرح فيك".
ما إن حطت عقارب الساعة عند الثانية ظهرًا، أعاد ساهر الذي يعمل ميكانيكيا ارتداء الثياب ذاتها، بعد أن تفقد حافلة والده التي تتسع لخمسين راكبًا، لكن كان السؤال هذه المرة من والدته وقصدت المزاح.
- إيش وصيتك؟!..
تعجب ساهر؛لكنه رد عليها واضعا يده على ابنة شقيقه:
- هذه وصيتي.
"ليش ما تروح عند خطيبتك (مادلين) بدل ما تروح على المسيرات؟".. تحاول تغيير وجهة طريق ابنها، وخطته لهذا اليوم، لكنه أصر على أن يذهب للمسيرات معللا السبب: "غدا موعدي لزيارة مادلين، وأنا راجع من الشغل .. خليها تدرس لتوجيهي".
ساهر الذي اكتسب خبرة واسعة في مجال ميكانيكا السيارات من والده منذ طفولته، حصل على فرصة عمل جديدة قبل أربعة أيام ولكن كانت الفرصة بعيدة بمدينة غزة، يتحمل طول مسافة الطريق وأجرة متدنية، ففاض الكيل به وصارح والدته قبل مغادرته المنزل: "بديش أرجع اشتغل معه .. طول النهار على 40 شيكل"، وطلب من والدته أن تغسل ملابس أخرى كي يرتديها في زيارته المقررة في اليوم التالي لخطيبته.
زفاف مختلف
الخامسة والنصف مساءً يوم (27 سبتمبر)، هاتف والدة ساهر (سائدة عثمان 41 عامًا) يرن؛ على عجل ردت على المكالمة فالمتصل ابنها الأصغر كان يبكي على غير العادة إلى أن تمالك نفسه: "أخويا ساهر انطخ".
كل شيء تغير، وكأن دمها تجمد في عروقها، حبست أنفاسها، اهتز قلبها ورجت دقاته، أسئلة كثيرة دارت في مخيلتها استرجعت حديث الصباح مع ساهر، وما دار بينهما عن حفل الزفاف، وتلهفها على انتظاره، تسأل نفسها: "هل سيكون الزفاف مختلفا ..هل سأزفه شهيدا؟!"، ثم عادت إلى واقعها من حالة الشرود تلك متمنية عدم حدوث أي مكروه لنجلها، تركت كل شيء وذهبت للمشفى.
وصلت أم ساهر بعد نصف ساعة، تريد إطفاء نار القلق المشتعلة في قلبها، لكنها لم تجد سوى تطمينات من الأطباء أنهم يحاولون إنقاذ حياته، وأنه بحاجة لجرعات دم، في هذه اللحظة اتصلت خطيبته بعدما علمت أن رفيق روحها يحتاج إلى دماء، رافضة أن يستقبل أي دماء إلا من دمائها: "خدوا من دمي، وخلوه عايش" لكن قلبه كان يلفظ أنفاسه الأخيرة، حتى نزل خبر استشهاده كصاعقة على قلب والدته.
وروت والدة الشهيد تفاصيل الحدث الأليم وهي تجهش بالبكاء، ثم تمالكت نفسها وقالت: "كان ساهر يستعد لحفل زفافه. جهز غرفته وطلاها، كنا ننتظر زفافه بفارغ الصبر في شهر فبراير القادم.. لكني اليوم أزفه عريسا".. ثم عاد البكاء يقاطع صوتها.
ظلت ابتسامة ساهر ترافقه حتى حينما رحل شهيدا، كان مبتسما، حينما أطلق عليه قناص إسرائيلي رصاصة اخترقت جسده العلوي، لم تعرف والدته أين استقرت؟!، إلى أن استطاع طبيب إخراجها بصعوبة.
حينما رحل ساهر رسم صورة أخرى لهذه الرحيل، فقد أدار وجهه تجاه القناص الإسرائيلي، وظلت الابتسامة مطبوعة على وجنتيه، في غمرة الألم تنقب والدته على عجل بعضا من المواقف لنجلها، لكن أكثر شيء تذكره، استيقاظه الباكر كل صباح لتفقد حافلة والده التي تقل طلبة الجامعات، وتشغيلها قبل الذهاب إلى عمله.
اختلطت الدموع بالكلمات عائدة بذاكرتها إلى ما قبل خمسة أشهر: "في يوم خطبته، كان سعيدا، كطائر حلق في بستان الفرح؛ لم تسع الفرحة قلبه في ذلك اليوم، رفض فكرة الذهاب المتكرر لزيارتها كي يعطيها فرصة للمذاكرة".
ساهر الذي لم يتخلف عن المشاركة في مسيرات العودة، لديه أربعة أشقاء وشقيقتان، رحل تاركا الحزن يستوطن قلب والدته.
سيمر فبراير القادم الذي انطفأت مراسمه قبل أن يأتي، وسيمر مارس/ آذار الذي ولد فيه ساهر لتتذكر فيه الأم فلذة كبدها، ومواقف عديدة مما لم تستطع تذكره اليوم، لتفتح جرح الفراق في كل مرة، وترك خطيبته مادلين تبكي على أطلال الذكريات.. مراسم فرح لم تتم كانت على وشك أن تشعل شموعها، لكن رصاصة إسرائيلية كانت أقرب إلى قلب ساهر، وأطفأت وهج تلك المراسم المرتقبة.
قـــد يهمــــــــك أيضــــــاُ :