الحافلات الخضراء باتت أحد أهم أوراق الضغط التي يستخدمها النظام السوري ضد خصومه

أصبحت الحافلات الخضراء أحد أهم علامات الاستراتيجية التي تتبناها الحكومة السورية، لأنها تعتبر الخيار الأخير الذي تقدمه للمحاصرين داخل المدن السورية، التي يسيطر عليها المتمردين، كما أنها كذلك تبدو أحد أهم أوراق الضغط التي يستخدمها النظام السوري ضد خصومه.

وباتت تلك الحافلات أحد وسائل الضغط التي يستخدمها النظام، والتي تقوم في الأساس على فكرة التجويع أو التسليم، وألقت طائرات تابعة للنظام السوري منشورات قبل أيام، تقدّم خيارًا قاسيًا لحوالي 250 ألف نسمة يقطنون المناطق المحاصرة بين الموت أو الخروج من المدينة عبر الحافلات الخضراء.

وسيطرت صور تلك الحافلات على المشهد، فالقنوات الحكومية، والمواقع الإلكترونية الموالية للنظام تحتفل بها في تقاريرها التلفزيونية على أنها وسيلة الإجلاء للمدنيين، بينما ترفع المعارضة شعارات الحداد باعتبار أن تلك الحافلات وسيلة ترحيل قسري للمواطنين. وينظر أعداد كبيرة من النساء والأطفال وربما بعضًا من المقاتلين، خارج النوافذ، يحدقون في الفضاء، ويهتفون باكين حزنًا لترك تلك المناطق التي كانت يومًا ما رمزًا للتمرد، ضد الرئيس السوري ونظامه.

ويتم تخيير راكبي تلك الحافلات بين أمرين، وتبدو كل الخيارات سيئة للغاية، إما أن ينتقلوا إلى أحد المناطق الخاضعة تحت سيطرة الحكومة السورية، وهناك سيواجهون مصيرًا مجهولًا إما في السجن أو على الأقل التجنيد الإجباري، أو الانتقال إلى منطقة أخرى خاضعة للمعارضة، ويواجهون نفس ما كانوا يواجهونه في بلادهم التي تركوها مؤخرًا، ولعل الغارة الجوية التي استهدفت مدرسة في إدلب الأربعاء الماضي لتقتل حوالي 22 طفلًا تقدم مثالًا مهمًا لمعاناتهم.

وقال أحد السوريين المعارضين ويدعى جلال التلاوي، "اللعنة على الحافلات الخضراء"، موضحًا أن تلك الحافلات دائمًا ما تظهر له في الكوابيس عند المنام. وخاض تلاوي تجربة مع تلك الحافلات قبل عامين من الزمان، عندما استخدمها للرحيل من مدينة حمص السورية، حيث انتقل منها ليواجه حصارًا جديدًا في مدينة "واير" السورية، قائلًا عن تجربته إنها بالنسبة لهم لا تختلف كثيرًا عن فكرة النزوح.

وربما لم تقتصر رمزية الحافلات على المرحلة الراهنة، في ظل ارتباطها بترحيل سكان المدن المحاصرة، حيث كان الظهور الأول للحافلات الصينية الصنع في عام 2009، لتصبح رمزًا للتحديث الذي سبق، وأن وعد به الرئيس السوري بشار الأسد، ودهنت باللون الأحمر بعد ذلك، لتوضع عليها ملصقات للإعلان عن شركة التليفون المحمول والتي يملكها ابن عم الرئيس. وهذه الحافلات حلت محل الحافلات الأخرى المتهالكة التي كانت تستخدم قبلها، والتي أعيد استخدامها بعد ذلك لنقل العمال إلى محل أعمالهم، والتلاميذ إلى المدارس.

وأوضح أسامة محمد علي، وهو أحد نشطاء المعارضة السورية، أن تلك الحافلات كانت يومًا ما رمزًا للاحترام المتبادل بين كافة عناصر المجتمع السوري، حيث كانت تنقل الطلاب إلى مدارسهم جنبًا إلى جنب مع الموظفين، وكان السائق يشغل أغاني المطربة اللبنانية فيروز، في حين كان الركاب الجالسين يتركون مقاعدهم لغيرهم من الواقفين من كبار السن، إلا أن رمزية الحافلات تغيرت بصورة كبيرة بعد اندلاع الانتفاضة السورية قبل أكثر من خمسة أعوام.

ويستطرد علي "أصبحت هذه الحافلات وسيلة نقل قوات الأمن السورية وضباط أمن الدولة، وكذلك عناصر الميليشيات الموالية للنظام السوري المدججين بالسلاح، والذين اقتصر دورهم على قمع التظاهرات المناوئة للنظام السوري، وكذلك اعتقال المتظاهرين، وتعذيبهم في السجون والمعتقلات التابعة للنظام". وفي عام 2014، تم ترحيل سكان مدينة حمص السورية على نفس الحافلات، بناءً على اتفاق تم تحت إشراف منظمة الأمم المتحدة، وهي اللحظة التي رصدها الناشط السوري بقوله "لقد كنا نبكي جميعًا في تلك اللحظة، فقد كنا نظن أننا سنبقى المدينة لنحررها من قبضة النظام السوري الحاكم، إلا أن الواقع كان مختلفًا، فأصبحت نهايتنا هي الصعود على متن أحد الحافلات الخضراء". ومنذ ذلك الحين، أصبحت تلك الحافلات هي أحد أهم أركان مشهد صفقة الاستسلام المحلي في سورية، وهي الصفقات التي حرصت الحكومة السورية على دعمها، بدلًا من تشجيع اتفاق سلام شامل لإنهاء الأزمة السورية.

وترى الحكومة السورية وحليفتها الروسية عمليات الإجلاء كعمل من أعمال الرحمة، في ظل الصورة التي يروجونها بأن مواطني المناطق المحاصرة يتم استخدامهم كدروع بشرية، لصد القصف المتواتر الذي يستهدفهم من قبل النظام الحاكم في سورية بدعم من الجانب الروسي، بينما يراها رموز المعارضة أنها عمليات نزوح تستهدف تطهير تلك المناطق من الأغلبية السنية التي تقطنها في إطار ما يمكن تسميته بالتطهير العرقي.

وأدانت الأمم المتحدة تمامًا عمليات الإخلاء، وصفة إياها بالتهجير القسري، داعية إلى إعادة السكان إلى مدنهم بأمن وكرامة، إلا أن استمرار طرد المواطنين من مناطقهم، ربما دفع البعض إلى اتهام الأمم المتحدة والوكالات العاملة معها بالتواطؤ.

وأكدت "نيويورك تايمز" أن امتناع بعض البلدات عن الاستسلام، يؤدي إلى زيادة عمليات القصف وتكثيف الحصار، ففي آب/أغسطس الماضي، اضطر حوالي 1500 مواطن سوري للاستسلام في مدينة داريا، وذلك في أعقاب القصف الناري للمستشفى، وذهب بعضهم إلى المناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة بينما لجأ البعض الأخر إلى مناطق أخرى مازالت تحت إدارة المتمردين. وقال أبو عدنان، وكان يعمل سائقًا في أحد الحافلات الخضراء، أنه تولى قيادة حافلة أقلت 20 مقاتلًا مع أسرهم، في إدلب، حيث بكى العديد منهم أثناء عبورهم أحد نقاط التفتيش التابعة للنظام بينما كانوا في طريقهم إلى داريا، موضحًا أن مشهد بكاء الرجال كان صعبًا للغاية.

وبيّن أنه رأى أحد المقاتلين يضع بعض التراب من داريا في كيس من البلاستيك، يشعر وكأنه يحمل رائحة من الجنة، موضحًا أن المسافة التي لا تتعد ثلاثمائة ميل، استغرقت حوالي 30 ساعة للوصول إليها عبر الحافلة، بسبب التوقف المتكرر لكثرة نقاظ التفتيش، في الوقت الذي حدثت فيه بعض المشادات بين قوات الأمن والمتمردين، وهدد المتمردون بإطلاق النار في حال صعود قوات الأمن إلى متن الحافلة. وأضاف أن الجانبين تبادلا الهتافات، وهتفت قوات الأمن للرئيس السوري بشار الأسد، بينما هتف المقاتلون للثورة ولمدينة داريا السورية.