قال مستشار الرئيس للشؤون الاقتصادية محمد مصطفى، إن القيادة الفلسطينية بدأت توجها إستراتيجيا جديدا لتخفيف التبعية الاقتصادية لإسرائيل، تقوم أساسا على الاستثمار في قطاعات إستراتيجية أبرزها قطاعي الصناعات الغذائية، والطاقة.
وكان مصطفى يتحدث في مؤتمر بعنوان 'التحديات الاقتصادية في المنطقة وآفاق التعاون الفلسطيني الكوري'، نظمه معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني 'ماس' في رام الله، اليوم الاثنين، بالشراكة مع المعهد الكوري للسياسات.
وقال مصطفى، 'بعد عقود من العمل السياسي الهادفِ لتحقيق الاستقلال، وفي ضوءِ الموقفِ الإسرائيلي الرافضِ لأي حلول عادلة، ذلك الموقفُ الذي يعكسُ ميزانَ القوى المختل لصالحه، بدأت القيادةُ الفلسطينيةُ مؤخراً باتّباع توجهات إستراتيجية جديدة تهدفُ إلى تغييرِ موازينِ القوى'.
وأضاف: لقد سعى الاحتلالُ الإسرائيلي منذ اليومِ الأولِ إلى تعميقِ تبعيةِ الاقتصادِ الفلسطيني له، بحيث يظلُّ مرتبطا به بشكل لا يمكنُ الانفكاكُ عنه من دون عملية قيصرية خطيرة ومكلفة. وقد نجم عن ذلك تشوهاتٌ عديدةٌ في سوقِ العملِ والتجارةِ الخارجيةِ والماليةِ العامة، انعكست على جميع المؤشراتِ الاقتصادية، إذ انخفض معدلُ النموِّ في الناتجِ المحليِ الإجماليِ إلى أن وصلَ إلى حوالي ناقص نصف بالمائة خلال العام 2014. كما ارتفع معدلُ البطالةِ إلى حوالي 27% في نهاية العام 2014، وبلغ حوالي 44% في قطاع غزة.
كذلك، قال مصطفى إن مساهمةِ الأنشطةِ الإنتاجيةِ الرئيسية استمرت بالتراجع، إذ انخفضت مساهمةُ قطاعِ الزراعةِ في الناتجِ المحلي الإجمالي من حوالي 12% عام 1994 إلى حوالي 4% عام 2014، ومساهمة قطاعِ الصناعةِ من حوالي 23% إلى 14% خلال نفس الفترة، كما ارتفعَ العجزُ في الميزانِ التجاري عام 2014 ليصلَ إلى حوالي 5.5 مليار دولار.
وبالنسبة للمالية العامة، قال مصطفى انه بالرغم من التطورِ الإيجابيِ المتمثلِ بانخفاضِ قيمةِ العجز الجاري في الموازنة العامة خلال العام 2014 بحوالي 4%، إلا أنه ظلَّ مرتفعاً وتجاوز 1327 مليون دولار أميركي، ورافق ذلك انخفاضٌ في مستوى الدعمِ الخارجي لسدِّ العجزِ في الموازنة العامة، حيث بلغ هذا الدعمُ حوالي مليار دولار. وظلت إيراداتُ المقاصةِ مع إسرائيل تشكل حوالي 75% من صافي الإيرادات عام 2014.
وقال: هذه المؤشراتُ الخطيرةُ لا يمكن فصلُها عن الاحتلالِ الإسرائيلي وسياساتهِ وإجراءاته التعسفية التي تسعى إلى إضعافِ الاقتصادِ الفلسطيني وإبقائه تحت هيمنته. وباتت هناك حاجة ملحة إلى مقاربة جديدة لتعزيزِ مسيرةِ البناءِ الاقتصادي. وقد أدركت القيادةُ الفلسطينيةُ أهميةَ التحررِ من روابطِ التبعيةِ للاقتصاد الإسرائيلي، وأصبحَ هناك إجماعٌ على كافة المستويات: لدى المجلس المركزي لمنظمة التحرير، ولدى الحكومة، ولدى التيارات المدنية، على الدور الرئيسي للاقتصاد في تغييرِ موازين القوى وبناءِ الدولةِ المستقلة. وقد أخذت القيادةُ قراراً بالعملِ على إعادةِ النظرِ في منظومةِ العلاقةِ الاقتصاديةِ مع إسرائيل، وهو ما يتمُّ العملُ عليه على مختلفِ المستويات'.
وأوضح مصطفى أن هذه المبادرة تهدف إلى تعزيزِ القدرةِ الذاتيةِ للاقتصادِ الوطني عبر بوابةِ الاستثمارِ بدايةً في قطاعات اقتصادية محددة ذاتِ أهمية إستراتيجية.
ومن محددات هذه القطاعات، بحسب مصطفى، أن تكونَ ذاتَ طابع استراتيجيّ، سواءً من حيثُ أهميتها للمجتمعِ أو الاقتصادِ، أو من خلال قدرتها على خلق العديد من فرص العمل، وأن يكونَ حجمُ الطلبِ، وبالتالي حجمُ الإنفاقِ على هذه القطاعاتِ كبيرا، سواءً بالقيمةِ المطلقةِ أو كنسبة من الناتجِ المحليِ الإجمالي، وأن تكونَ القطاعاتُ قادرةً على توفيرِ منتجات محلية يمكن أن تَحُلَّ محلَّ منتجات يتم استيرادها من الخارج، خصوصا من إسرائيل، بحيث يمثل إنتاجُها تحررا ملموسا عن الاقتصادِ الإسرائيلي.
وأضاف: لا بدَّ لمخرجاتِ هذه القطاعاتِ من بضائعَ وخدمات أن تكونَ على قدر من الجودةِ لتستطيعَ الوصولَ إلى ما هو أبعدُ من تلبيةِ حاجاتِ السوق المحلية إلى فتحِ أبوابِ التصدير، مؤكدا أن 'نقطة الارتكازِ في المبادرةِ هي زيادةُ حجمِ الاستثمارِ في قطاعَي الطاقةِ والصناعاتِ الغذائيةِ حيث تنطبقُ عليهما المعاييرُ السابقةُ الذكر'.
كذلك، شدد مصطفى على الأهمية الإستراتيجية بقطاع الطاقة، على المستوى الاستهلاكي والمستوى الإنتاجي، وبالتالي فإن توفّرَها وجودَتها وتَكلُفَتها تنعكسُ بشكل مباشر على القدرةِ التنافسيةِ للمنتجاتِ الزراعيةِ والصناعيةِ والخدمية.
وقال إن اعتمادَ فلسطينَ على استيرادِ الكهرباءِ والمشتقاتِ البتروليةِ من إسرائيل يبلغُ نسبةً عاليةً جداً تتجاوزُ تكلفتَها ملياري دولار سنويا في الفترةِ الراهنة، ما يشكلُ عبئا كبيرا على الموازنةِ العامةِ ويضعفُ أمنَنا القوميَ نتيجةَ الاعتمادِ الكبيرِ على الاستيرادِ من إسرائيل في هذا المجال. وأضاف: شهدنا مؤخرا زيادةً ملحوظةً في الاهتمامِ بهذا القطاعِ على مستوى الحكومةِ وعلى مستوى القطاعِ الخاص. فهناك خطواتٌ مهمةٌ تقوم بها الحكومةُ لتحسينِ البيئةِ التشريعيةِ والتنظيميةِ في قطاعِ الطاقة، كما بدأت تتشكلُ محفظةٌ استثماريةٌ واعدةٌ في هذا القطاع، ويلعبُ صندوقُ الاستثمارِ الفلسطينيِ وبالشراكةِ مع مجموعة من الشركاتِ الفلسطينيةِ الرائدةِ دورا رئيسيا فيها، وتشملُ المحفظةُ عدةَ مشاريعَ كبرى ذات طابع استراتيجي ستساهمُ في تحقيقِ مجموعة من الفوائدِ الاقتصاديةِ بالإضافةِ إلى المساهمةِ في تحقيقِ درجة أعلى من 'أمن الطاقة'.
واعتبر مصطفى الاستثمارَ في هذين القطاعين (الصناعات الغذائية، والطاقة)، 'يمكن أن يشكّلَ مدخلا رئيسيا وهاما لعميلةِ التحررِ الاقتصاديِ عن إسرائيل. لا شكَّ أنَّ زيادةَ حجمِ الاستثمارِ الرأسماليِ في هذين القطاعين سيكون له تأثيرٌ نوعيٌ وملحوظٌ على الاقتصادِ الوطنيِ، إضافةً إلى زيادةِ الاعتمادِ على الذاتِ، وبالتالي المساهمةُ في تحريرِ الاقتصادِ الفلسطينيِ من ارتهانهِ للاقتصادِ الإسرائيلي'.
وخلص مستشار الرئيس للقول إنه 'من أجل دعمِ وتسريعِ برنامجِ الاستقلال، هناك حاجةٌ ماسةٌ وملحةٌ لتعزيز استراتيجيّ لمسارِ البناءِ الاقتصادي، وذلك في ضوءِ النتائج الضعيفةِ على هذا المسارِ في العقدين الماضيين. هذا المسارُ، إلى جانب المساراتِ الإستراتيجية الأخرى الهادفةِ إلى تغيير موازين القوى، يجب أن يمتازَ بمقاربات مبتكرة وفعالة تحققُ استدارةً في المؤشراتِ الاقتصاديةِ باتجاه الاستقلالِ الاقتصاديِ والتحررِ من السيطرة الإسرائيلية'.
وكان مدير الأبحاث في 'ماس' سمير عبد الله استهل المؤتمر بالتركيز على القواسم المشتركة في تجارب كل من فلسطين وكوريا.
وقال 'لنا تجارب مشتركة، إذ عانى الكوريون من الاحتلال والحروب، لكنهم نجحوا في التحرر وبناء اقتصاد قوي، بينما ما زال الشعب الفلسطيني يناضل من اجل تحقيق هذا الهدف'.
وأضاف: حققت كوريا ما حققته رغم المعوقات ومحدودية الموارد، لهذا ننظر كفلسطينيين بإعجاب لما حققته لشعبها وللمجتمع الدولي. اقتصاد كوريا قصة تحتذى لمن يتطلع إلى تحقيق نمو اقتصادي.
من جهته، أكد نائب رئيس المعهد الكوري للسياسات، كيم هيونغ شونغ، التزام المعهد بوضع تجربته والخبرات التي تحصلت لديه في خدمة الاقتصاد الفلسطيني، مشيرا إلى العديد من الإنجازات التي حققها المعهد، المتخصص بالسياسات الاقتصادية الدولية والتنمية الإقليمية، ودوره في دعم جهود الحكومة الكورية لتعزيز علاقاتها مع العالم بما في ذلك منطقة الشرق الأوسط.
وقال، 'نتطلع إلى حوار معمق مع السلطة والمؤسسات الفلسطينية، خصوصا أن البلدين تمكنا من بناء علاقات قوية، عبر عنها بالعديد من الاجتماعات التي عقدت بمستويات رفيعة بين حكومتي البلدين'، معربا عن أمله بأن يخرج المؤتمر بمؤشرات وبيانات تساهم في تعزيز العلاقة بين البلدين، وكذلك تعزيز الدعم الكوري المقدم لفلسطين'.
ورغم التطور الذي شهدته العلاقة بين البلدين في السنوات الأخيرة، إلا أن التبادل التجاري بينهما ما زال اقل من طموحاتهما.
وقال ريمون أبو فرحة، من ممثلية كوريا الجنوبية في فلسطين، إن إجمالي الواردات الفلسطينية من كوريا يبلغ حوالي 40 مليون دولار سنويا، تتركز في السيارات والأجهزة الكهربائية، في حين لا يزيد حجم الصادرات الفلسطينية إلى كوريا عن 5 ملايين دولار سنويا، تتركز في منتجات الحجر والرخام، مقابل تبادل تجاري بين كوريا وإسرائيل يبلغ سنويا حوالي 2.3 مليار دولار.
على صعيد المساعدات، قال أبو فرحة إن إجمالي المساعدات الكورية الجنوبية لفلسطين منذ قيام السلطة في العام 1994 بلغت حوالي 50 مليون دولار، تركزت في قطاعات: الصحة، والتعليم، والتكنولوجيا، إضافة إلى برامج تدريبية تشمل حوالي 120 كادرا فلسطينيا في كل عام.
أرسل تعليقك