بقلم مصطفى الفقي
لم أتمالك نفسى مرتين من البكاء الصامت وحبس الدموع فى مقلتى، الأولى وأنا أستمع لأم الشهيد تتحدث أمام الرئيس فى الحفل التثقيفى الذى أقامته القوات المسلحة فى ذكرى حرب أكتوبر، والثانية وأنا أستمع لأم شهيد آخر فى عيد الشرطة هذا العام وفى حضرة رئيس الدولة أيضًا ورموزها من كافة القطاعات، لقد أدركت عن يقين درجة الاستعداد العليا لدى المواطن المصرى لتقدم مواكب الشهداء من أبنائه وفلذات أكباده قربانًا للوطن فى حربه الضارية على الإرهاب بجرائمه الدامية ومحاولاته المتواصلة لتقويض أمن الوطن والنيل من تماسك شعبه، والشهيد درجة عليا أو هى الأعلى فى سلم البشر، لأنها التضحية بالحياة من أجل أن يعيش الآخرون، إنها سمو إنسانى رفيع وتألق بشرى مقدس، والذين قالوا إن المجد للشهداء لم يخالفوا الحقيقة، وأنا أطرح فى السطور التالية نقاطًا ثلاثًا للتعليق على مسيرة الشهداء وأوضاع أسرهم فى الدولة المصرية:
أولاً: كنت ألقى محاضرة عامة فى مدينة «الإسكندرية» منذ عدة أسابيع، وعندما بدأت فترة الحوار بعد أن انتهيت من حديثى وفتحت باب الأسئلة، تقدمت سيدة فاضلة وقالت: إننى زوجة شهيد رحل عن عالمنا منذ عشرين عامًا وترك لى أطفالًا ثلاثًا ولدين وابنة، وأنا أعتز بأن أعلن أمامكم أن الثلاث قد تخرجوا من الجامعة ويعمل الولدان فى وظائف واعدة، وأن البنت قد تزوجت وأنجبت لى حفيدًا سميته على اسم جده الشهيد، وأضافت السيدة: «إن الذى ساعدنى فى مسيرة حياتى هو أن أبى ـــ رحمه الله ـــ كان رجلًا ميسور الحال، ولكننى ألفت نظركم إلى مئات الحالات من أسر الشهداء الذين عانوا كثيرًا بعد رحيل عائلهم رغم أن الدولة قد بذلت جهودًا كبيرة فى رعايتهم، ولكن الأمر يكون دافئًا فى البداية والاهتمام كاملًا فى الشهور الأولى لتلبية مطالب واحتياجات الأسر الحزينة، ولكن مع مضى الوقت تنخفض درجة الحرارة بفعل عنصر الزمن وتواجه أسر الشهداء صقيع الحياة رغم أنهم قدموا للوطن أغلى ما يملكون»، وأضافت السيدة: «إننى أعلم أن القوات المسلحة وجهاز الشرطة والجهات المدنية الأخرى قد تطورت كثيرًا فى خدمة أسر الشهداء من النواحى المادية، ولكن الجوانب المعنوية لتوجيه الأولاد والبنات فى مراحل تعليمهم وحل مشكلاتهم مازالت بحاجة إلى نظرة جديدة»، وأنا أضم صوتى إلى هذه السيدة الفاضلة فلقد عايشت شخصيًا مشكلة لأرملة الشهيد اللواء «نبيل عبدالمنعم فراج» شهيد «كرداسة» الشهير وهى تسعى لإدخال ابنها إلى كلية الشرطة لكن الاستجابة كانت ضعيفة رغم أنها تحدثت إلى وزير الداخلية السابق فى إحدى المناسبات، وكانت حجتهم أن الشاب ليس ابن الشهيد ولكنه ابن أرملته، رغم أن الشهيد الراحل هو الذى رباه منذ كان عمره سنة أو سنتين عندما رحل والده الحقيقى، ولأن السيدة الأرملة تمت لى بصلة قرابة فقد طلبت منى كثيرًا التوسط فى هذ الشأن ولكننى فشلت فى ذلك لأن شرط المجموع لم يكن مقبولًا لكلية الشرطة إذ كانت تنقص الفتى بعض درجات كنت أتمنى منحه استثناءً إكرامًا لأرملة الشهيد الذى كان عظيمًا بكل المقاييس.
ثانيًا: مازلت أطالب بنصب تذكارى لأسماء الشهداء فى كل محافظة، بحيث تجرى الإضافة إليه كل عام من قوافل الشهداء ومواكب أبناء الوطن الذين دفعوا حياتهم بلا تردد من أجله، وهو تقليد عملت به دول كثيرة، إذ إن منزلة الشهيد لا تعلوها أخرى، مع إعطاء الشهداء أولوية فى تسمية المنشآت الجديدة فى محافظاتهم خصوصًا المدارس والمستشفيات بل دور العبادة أيضًا حتى يستقر فى وجدان الوطن أن الشهيد لا تنساه أمته ولا تذهب سيرته وراء أستار النسيان. ولعلى أطلب أيضًا من المؤسسات الدينية متمثلة فى «الأزهر الشريف» و«الكنيسة القبطية» أن يتذكر أبناء كل منطقة شهداءها فى خطب الجمعة أو الوعظة الأسبوعية، بل إننى أتجاوز ذلك إلى المطالبة بوجود مقرر دراسى للتعليم الثانوى بكل أنواعه ومراحله يستعرض فيه الطلاب أبرز شهداء الوطن وأغلاهم تضحية، لأن ذلك ترسيخ لمبدأ المواطنة وإعلاء لشأن التضحية تقديرًا للذين آثروا حياتنا على حياتهم!، حتى أصبح تكريمهم واجبًا مقدسًا بمنطق الوطنية والدين والأخلاق فى وقت واحد.
ثالثا: لقد لاحظت أن رئيس الدولة «عبدالفتاح السيسي» يتقدم جنازات بعض الشهداء ويقبل رؤوس أمهاتهم وهذه سوابق جديدة تدعو إلى الرضا والارتياح، ومازلت أتذكر «عبدالناصر» وهو يتقدم جنازة شهيد الوطن «عبدالمنعم رياض»، و«أنور السادات» وهو ينعى شقيقه الشهيد الطيار «عاطف السادات»، فالتضحية لا حدود لها ولا سقف لارتفاعها بل إن أغنية الفنانة «شريفة فاضل» «أم البطل» عن ابنها الشهيد ما زالت تمس شغاف قلوبنا كلما استمعنا إليها عبر السنين، فالشهيد لا يموت واسمه لا يندثر ولا يطويه النسيان، إننا نتابع كل أسبوع تقريبًا مواكب جنائزية لشهدائنا العظام ورفاتهم القادمة من أرض «سيناء» المقدسة أو من غيرها من بقاع الوطن، وتخرج القرية المصرية تزف ابنها الشهيد أو تخرج المدينة الصغيرة أو أحد الأحياء فى المدينة الكبيرة يودعون عزيزًا وغاليًا ذهب ليمثلهم بين كوكبة الشهداء مندوبًا لهم إلى جنة الخلد، وقد يتقدم الجنازة أبوه الكهل إذ ليس أشق على المرء من أن يدفن ابنه أو ابنته، لأن طبيعة الحياة هى العكس، ولذلك تكون هذه الاستثناءات مؤملة وحزينة وحارقة للقلوب.. فلنردد جميعًا فى كل مناسبة وطنية أو دينية، المجد للشهداء.. المجد للشهداء.. لقد صعدوا إلى السماء!.