بقلم - مصطفي الفقي
لقد قالوا «إن الحاجة أم الاختراع» وأنا أقول «إن الحرية هى أم الإبداع»، والمقصود بالإبداع هنا هو الخروج عن المألوف والتفكير خارج الصندوق- كما يقولون- واكتشاف حلول غير تقليدية لمشكلات مزمنة أو تفسيرات عصرية لقضايا مترهلة، إننى أقول ذلك وأنا أرى أن القيود على الإبداع كبيرة فى العالمين العربى والإسلامى، وبالمناسبة فإنى أبادر وأسجل رفضى المساس بالعقائد الدينية أو العبث بإيمان الآخرين، فكل إنسان مرتبط بعقيدته متمسك بديانته شديد الحساسية للمساس بإيمانه، ومن قبيل الحرية أن أترك لكلٍ خياراته، بشرط ألا يكون فى ذلك اعتداء على حرية غيره فى إطار من الإحساس بالمسؤولية الإنسانية والالتزام الثقافى والإرادة الاجتماعية، إننى أكتب هذه السطور وأنا أشعر أحيانًا بمحاولات لضرب الإبداع دون مبرر دينى أو أخلاقى أو ثقافى، ولكن لدوافع شخصية يجرى فيها استغلال الثوابت لمنع الدخول فى التفاصيل وإغلاق الصناديق على ما فيها دون تنقيب حتى ولا إعادة قراءتها بمفهوم عصرى، إننى أكتب الآن لكى أضع أمام القارئ الملاحظتين التاليتين:
أولًا: تربطنى بالدكتور «يوسف زيدان» صلة طيبة- وإن لم تكن لقاءاتنا منتظمة- وأرى فيه مفكرًا من طراز خاص، قد تتفق معه أو تختلف، ولكنك تدرك أنه يفتح باب الاجتهاد على مصراعيه، ويرفض القبول بالمسلمات، ويناقش أمهات القضايا من جذورها، وهذا أمر يُحمد له ولا يحسب عليه، وإن بدت فى بعض آرائه شطحات تمس ما اعتقدناه عبر القرون، فإن ذلك لا يبرر إطلاقًا القيام بحملة عليه أو محاولة قصف قلمه أو إسكات صوته، فالأمم والشعوب تتقدم بالأفكار المبتكرة والتفسيرات الجديدة والمبادرات الجريئة، ولنتذكر ما عاناه العلماء والمفكرون فى العصور الوسطى، وهم يبشرون بآراء جديدة وأطروحات غير معتادة، فوُصفوا بالكفر ورموا بالزندقة، ثم أثبتت الأيام بعد ذلك صحة ما قالوا به.. ولحسن الحظ أن الدين الإسلامى قد فتح باب الاجتهاد الذى أغلقه ضيقو العقول ومريضو النفوس، فى محاولة لتعويق تقدمنا نحو الإسلام وليس مجرد رجوعنا إليه، فهو يبدو سابقًا للعصر فى كثير من القضايا والمسائل، ولكن التفسيرات المريضة والرؤى العقيمة والانغلاق الفكرى تؤدى فى مجملها إلى غير ما يتماشى مع روح العصر ومسيرة الإنسان واستشراف مستقبله، وعندما يقول «يوسف زيدان» إن صورة «صلاح الدين» فى أذهاننا ليست هى الصورة الحقيقية، فلا يعنى ذلك أن نرجم الرجل بالحجارة، فالتاريخ حافل بأخطاء الكبار وكبواتهم، بدءًا من «عمرو بن العاص» و«خالد بن الوليد» وصولًا إلى «صلاح الدين» و«أحمد عرابى»، ذلك الفلاح المصرى طيب القلب والقائد الشجاع الذى يستحق التكريم ولكننا نتذكر «قصيدة شوقى» الشهيرة فى هجائه عند عودته وكيف كان البعض يبصقون عليه وهو يجلس على المقهى بعد العودة من المنفى متهمين إياه بأنه سبب الاحتلال وأن هوجة «عرابى» كانت نكسة حقيقية للبلاد، هكذا رأى البعض، وأنا شخصيًا لا أتفق معهم، ولكننى أناقش آراءهم وأستند إلى الظروف المحيطة بـ«عرابى» وأعوانه، من هنا فإن ما جاء به «يوسف زيدان» ليس بدعة يستحق عليها العقاب أو التراشق بالكلمات أو الكيل بالاتهامات، فللمجتهد أجران إذا أصاب، وأجر إذا أخفق لأنه حاول وإن لم ينجح، فأمثال «يوسف زيدان» فى حياتنا يجب أن يكونوا مصابيح مضيئة تحرض على التفكير وتدعو إلى التأمل بدلًا من محاولات التشكيك فيهم والتفتيش فى نواياهم وتسفيه آرائهم، ولنا أن نقبل بما يقولون أو نرفضه إعمالًا بالمبدأ الذى أرساه «الإمام الشافعى» فى الحضارة العربية الإسلامية بقوله: «إن رأيى صواب يحتمل الخطأ، ورأى غيرى خطأ يحتمل الصواب»، أو ما قاله «فولتير» فى الحضارة الأوروبية المسيحية: «إننى مستعد أن أدفع حياتى ثمنًا للدفاع عن حرية رأى قد أختلف معه».
ثانيًا: إن الدعاة الجدد، وما أكثرهم!، فأمرهم يختلف، لأننا بصدد التعامل مع عقائد روحية راسخة، والمساس بها عدوان على الحرية وليس تكريسًا لها أو تأكيدًا لوجودها كما يتوهم البعض، وعلينا أن نتعامل بحرص شديد، حيث لا يتصدى للدعوة إلا الموالون لها والدارسون لعلومها والمتبحرون فى شؤونها، فعندما يتحدث رجل بقامة الدكتور «سعد الهلالى»، فإننى أنصت باحترام، وإن اختلفت معه أحيانًا، لأنه فى النهاية عالم فقيه، أما الدعاة الهواة فأمرهم يحتاج إلى مراجعة، ولكننى أيضًا ضد العصف بهم والعدوان على أشخاصهم وتقديمهم للقضاء أو إيداعهم السجون، فالحجة تقارع الحجة، والرأى يواجه الرأى، والفكرة تدحض الفكرة، أما الإجراءات القانونية فى غير محلها، أو العدوان على الحرية بدون مبرر فتلك أمور يجب أن نتخلى عنها، وأن نؤمن جميعًا بأننا فى قارب واحد وينبغى أن يحترم كل منا خيارات الآخر دون تسفيه أو شخصنة أو افتراء.