بقلم : مصطفى الفقي
السيدة العظيمة «جاسيندا أردرن»
أكتب لكِ كإنسان قبل أن أكون مواطنًا مصريًا، فالإنسانية تسبق الجنسيات والقوميات والديانات والثقافات، لأننا جميعًا فى قارب واحد لن ينجو منه إذا غرق لا متطرف ولا متشدد ولا إرهابى، أقول لكِ ذلك وأنا أعبر عن اعتزاز مئات الملايين من البشر بدورك الرائع والنموذج العظيم الذى خطف الأبصار وشد الأسماع ورطب القلوب المكلومة حزنًا على ضحايا المسجد فى نيوزيلندا مثلما هو الحزن الموصول على ضحايا الكنائس فى بلادى وفى غيرها ممن دفعوا ضريبة التطرف والجنوح إلى الجريمة على حساب سماحة الأديان وطهارة القلوب، لقد كان موقفك التلقائى فور وقوع ذلك الحادث الأليم مدعاة للإعجاب والتقدير بل الانبهار أيضًا فلقد شعر البشر جميعًا أن الإنسانية تطل علينا فى أعظم صورها مجسدة فى شخصك، وقد حاولت أن أكتب لكِ بصفتى البشرية بعد وقوع الحادث بأيام قليلة ولكنى آثرت الانتظار حتى أرى ردود الفعل من كل اتجاه ورغم أن الأغلب الأعم من المخلوقات على الأرض تتجاوب معكِ صوتًا أو صمتًا إلا أن هناك دعاة للتعصب تأصلت فى نفوسهم نوازع التطرف ودوافع الجريمة فجعلت منهم مخلوقات مشوهة تعيش بيننا وهى بالمناسبة لا تكره دينًا بعينه ولكنها تكره كل الديانات، ولا ترفض جنسًا بذاته ولكنها لا تقبل كل الجنسيات، إنه مرض فى القلوب وخراب فى العقول وانهيار فى الخلق إننى أحييكِ يا سيدتى على موقفك من جريمة ذلك الإرهابى الذى لا أسميه كما علمتِنا حتى لا يزهو بجريمته ويسعد بترديد اسمه، وقد كان ارتداؤك زى المرأة المسلمة مجاملة راقية لا يدركها إلا ذوو العقول الواعية كما كانت تحية الإسلام على لسانك نموذجًا فريدًا تعتز به كل الديانات ويسعد به كل المؤمنين فى الأرض، إن بلادكِ البعيدة عن منطقتنا قد صدرت لنا تجربة رائعة فى العدل والرحمة واحترام حقوق الإنسان وشعر الناس جميعًا أنكِ تتصرفين بوحى الضمير وتلقائية القلب ونضوج العقل فأصبحتِ مثالًا لكل المعانى النبيلة والقيم السامية فى تاريخنا المعاصر، لقد قدمتِ نيوزيلندا للعالم كأفضل ما يكون التقديم وتركتِ بصمة على جبين البشرية كأقوى ما تكون البصمة، ولقد فعلتِ ذلك كله استجابة لدعوة الخالق الذى خلقنا جميعًا بلا تفرقة، ولكننا نحن البشر صنفنا أنفسنا، وأسأنا إلى الإنسان خليفة الله فى الأرض ووديعته فى كل زمان ومكان، إننى عندما رأيت شريط الجريمة فور وقوعها لم أتخيل أن هناك من يعوضنى عن الحزن الذى داخلنى ولكن مواقفكِ قد غيرت المعانى، وجعلتنا نستعيد الثقة فى إنسانيتنا وننظر إليكِ كأيقونة لامعة على جبين الدهر، ولقد كانت كلماتك الواعية فى تأبين من رحلوا تأكيدًا للشعور الإنسانى المشترك الذى لن يغيب أبدًا، ومنذ أيام يا سيدتى اجتمع مجلس أمناء مكتبة الإسكندرية- وهى التى يمتد عمرها منذ بدايتها لأكثر من ألفى عام- بعد أن استقبلنا رئيس الدولة لأن الأمناء مجموعة من رؤساء الدول والحكومات من أنحاء العالم مع حزمة من كبار العلماء والمفكرين فى كل التخصصات كما أن مجلس الأمناء يشرف برئاسة الرئيس شخصيًا فقد كان الحوار معه دافئًا وعميقًا تطرق إلى قضايا التعليم وآثار التكنولوجيا على المستقبل وكيفية الخروج من مستنقع الإرهاب ودهاليز التطرف، وفى اليوم التالى اجتمع مجلس الأمناء فى مقر المكتبة بالإسكندرية وتقدمت شخصيًا باقتراح راود فكرى لعدة أيام وهو أن ندعوكِ- يا سيدتى العظيمة- لكى تكونى عضوًا فى مجلس أمناء أقدم مؤسسة تدعو إلى التسامح، وتشجع على الحوار وتتجه إلى البشر جميعًا بغير استثناء، ولقد صفق الحاضرون لاقتراحى تصفيقًا تلقائيًا فى الحال، وأشار البعض إلى مسؤولياتكِ- فأنتِ تشغلين المنصب الرفيع فى بلادك - وكان قولنا إن المكتبة تريد أن تتشرف بكِ ويوم أن تنهى مهامك الوطنية سوف نستقبلكِ بما يليق بكِ وبتاريخك الرفيع واسمك الذى يتردد على كل لسان.
سيدتى العظيمة
لقد آثرت أن تكون دعوتى إليكِ مفتوحة أمام الجميع قبل أن أتشرف بطلب لقاء سفير نيوزيلندا فى القاهرة لأقدمها له فى خطاب داخل مظروف.. لقد آثرت أن تكون دعوتى إليكِ مقترنة بدعوة مشتركة من ملايين المصريين والعرب ممن روعتهم جرائم الإرهاب وصدمهم العدوان على الكنائس والمساجد فى العقود الماضية.. تحية لكِ ولزوجك وطفلك الوليد.