بقلم: مصطفى الفقي
دعنا نواجه كل ما نعرف، ولا ندفن رؤوسنا فى الرمال كالنعام، إن سمعتنا فى سجلات حقوق الإنسان الدولية ليست مثالية منذ سنوات طويلة، ولنتوقف عن ترديد «الأسطوانة المشروخة» عن المؤامرات التى تحاك ضدنا وتسىء إلينا، إذ «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم»، إن على رؤوسنا- ظلماً أو عدلاً- بطحة لا تختفى، وفى وجوهنا سحجة لا تشفى، وقد يقول قائل: أليس فيما تذكر نوعاً من الاعتراف بالإدانة لبلدك؟ وهنا يجب أن يدرك الجميع أن تجاوزات حقوق الإنسان هى أمر شائع تكاد تتمتع فيه «الولايات المتحدة الأمريكية» بالنصيب الأوفى، خصوصاً فى سنواتها الأخيرة، بدءاً من «جوانتانامو»، مروراً بمصرع الأمريكيين الأفارقة الأبرياء، وصولاً إلى التستر على جرائم حليفتها الأولى «إسرائيل» عبر تاريخها الدامى منذ نشأتها، كما أن الدول الأوروبية، حتى المتقدمة منها، لديها أيضاً بطحات وسحجات لن تبرأ منها أبداً، فـ«المملكة المتحدة»، التى عشت فيها فى صدر شبابى- دبلوماسياً وطالباً- مازالت تذكرنى كيف تعرض بعض المصريين للضرب المبرح- وهو ضرب فنى متخصص لا يترك آثاراً واضحة- لمجرد أنهم تجاوزوا مدة الإقامة المقررة فى «بلاد الإنجليز»، وقد حكى لى أحد الشباب المصرى وقتها أن الضابط البريطانى قذفه بقدمه لينقله من بهو قسم الشرطة إلى حجرة داخلية، أما جرائمهم فى الخارج ضد حقوق الإنسان فمشانق «دنشواى» تتحدث عنها، علماً بأن الجرائم التى يجرى ارتكابها انتهاكاً لحقوق الإنسان هى جرائم لا تسقط بالتقادم، وأنا أزعم أن تقاليد البوليس المصرى هى امتداد للنظامين التركى والبريطانى، وكلاهما عرف التعذيب البدنى عبر التاريخ الطويل، بل إننى أدعى أن تاريخ الشرطة فى دول العالم المختلفة لا يبرأ من انتهاكات متوالية لحقوق الإنسان ضد أبناء وطنهم وضد الأجانب الوافدين إليه، ولقد أفزعنى كثيراً ما قرأت منذ سنوات من أن «مصر الدولة» كانت تستقبل فى سنوات مضت مجموعات من المتهمين من أعضاء التنظيمات الإرهابية تدفع بهم «الولايات المتحدة الأمريكية» فى مهمة تعذيب بـ«القاهرة» لاستنطاقهم والحصول على اعترافات منهم، ثم إعادتهم بعد تلك «البعثات الدامية» غير المشروعة إلى الدولة التى أرسلتهم لاستكمال فترات العقاب! وأنا أرجو أن يكون ذلك افتراء على «مصر» فى إطار الحملة الدولية والإقليمية التى حاولت وتحاول تشويه صورتها والإساءة إليها، ولكن الإشارة إلى عمليات «الاختفاء القسرى» فى «مصر» شملت صحفيين ومواطنين عاديين، بالإضافة إلى أجانب أتذكر منهم «الساسة الليبيين» الذين قام «القذافى» بتصفيتهم، وكانت آخر مشاهدة لهم فى العاصمة المصرية! ونحن لا نريد أن ننبش فى الماضى لأننا لسنا- ولا غيرنا- ملائكة، ولكن الذى يعنينى هو أن أؤكد أننا ندفع حالياً «فاتورة» غالية لتراكم مواقفنا السلبية فى إيضاح الحقائق، وعجزنا عن الرد بلغة معاصرة عما يتم توجيهه إلينا من اتهامات، وسوف أطرح بعض الأمثلة لما جرى وما كان يجب أن يكون:
أولاً: إننا دائماً متهمون حتى نتمكن من إثبات العكس، وقضية الطالب الإيطالى «جوليو ريجينى»، الذى وُجد جثمانه معذباً ومقتولاً على قارعة الطريق، هى نموذج لذلك، لأن من يتهم أجهزة الأمن المصرية بتلك الجريمة الشنعاء إنما يصفها فى هذه الحالة بالغباء والتخلف، لأنه لا يوجد جهاز أمنى فى العالم يمكن أن يقوم بمثل هذا العمل وبهذا الإخراج السيئ إلا إذا كانت درجة سذاجته تفوق الخيال! وأنا أميل إلى أن جهاز الأمن المصرى لم يتورط فى هذه الجريمة النكراء، ولكنها تمت ضده ونكاية فيه لمزيد من تشويه صورته وتخريب العلاقات المصرية- الإيطالية، لاسيما ونحن على أعتاب علاقات واعدة بين «القاهرة» و«روما»، خصوصاً فى مجال الغاز، إننى أعيب على جهاز الأمن المصرى أنه يكتفى بمواقف دفاعية ولا يقدم دفوعاً قوية تؤكد شفافيته ووضوح دوره، خصوصاً أن سجله فى ذهن الآخرين لا يرقى إلى مستوى تبرئته فى جريمة قد لا يكون هو بالفعل مرتكبها، وليتذكر «الإيطاليون» أن رئيس وزرائهم الراحل «الدو مورو» قد اختطف عام 1979 ووُجد بعدها مقتولاً، ومازالت الجريمة غامضة ولا أحد يعرف الفاعل الحقيقى رغم اتهام بعض المنظمات الإرهابية وقتها.
ثانياً: إننا ندفع إلى الرأى العام الخارجى، بل والداخلى أيضاً، بقضايا فرعية تستهلك جهودنا وتشوه صورتنا، ولعل نموذج الأحكام التى صدرت ضد «إسلام بحيرى» و«فاطمة ناعوت» هى خير دليل على اندفاعنا فى تطويع مفهوم «ازدراء الأديان» لكى يحتوى كل من لا نريد بحق أو بغير حق، أيها السادة ارحموا «مصر» من هذه الفرعيات، فـ«الإسلام» أقوى من كل هذه الدعاوى الحمقاء.
ثالثاً: إن الخطأ الحقيقى الذى ارتكبه «توفيق عكاشة» هو أنه سمح لنفسه بأن يتحدث فى قضايا مصيرية تتعلق بالأمن القومى المصرى والمصالح العليا للبلاد دون استعداد أو تخصص أو دراية كاملة، فضلاً عن أن عضو السلطة التشريعية ليس مفاوضاً بديلاً للسلطة التنفيذية، ولكنه فقط مراقب لها، أما مقابلته السفير الإسرائيلى فقد تكون فعلاً سياسياً شائناً من وجهة نظر أعداء «التطبيع»، ولكنها لا تمثل جرماً قانونياً لدولة تربطنا بها معاهدة سلام وعلاقات دبلوماسية كاملة، كما أن فصل «توفيق عكاشة» بتصويت متعجل من أعضاء «البرلمان» هو عدوان على إرادة أبناء دائرته الذين انتخبوه، كما أنه يعطى انطباعاً بأن «البرلمان» يصفى خصومة باختلاق أسباب ليست مقنعة، وأنها «مذبحة» ضد أصحاب الأصوات العالية، وأنها قد لا تتوقف.
رابعاً: إن تواتر أحداث «الاختفاء القسرى» فى «مصر» يحتاج إلى مراجعة شفافة وأمينة من أجهزة الأمن المصرية، ويجب ألا نتهاون فى هذا الشأن ونكتفى بترديد أن هناك «مؤامرة» تستهدف الأمن المصرى، وقد يكون ذلك صحيحاً، ولكن الرأى العام فى العالم الخارجى لا يعرف إلا البيانات الموثقة والمعلومات الدقيقة، لذلك فإننى أهيب بالإعلام الأمنى المصرى أن يتصدى بمواجهة مدروسة لكل الاتهامات الموجهة إليه وألا يبقى فى «خندق الدفاع»، بل يتقدم لكشف الحقائق ودحض الادعاءات، علماً بأن العالم يحترم فضيلة الصدق ولا يقبل الكذب والمراوغة التى أعتقد أننا قد تجاوزنا مراحلها بعد ثورتين والإطاحة بنظامين فى ظل شعب واحد لا يتغير أبداً.
خامساً: إننى لا أتدخل فى الشأن القضائى، وأعلم أن التعليق على «أحكام القضاء» أمر غير مستحب، ولكننى أظن أن «أحكام الإعدام الجماعية»- والتى من المؤكد أنها لن تنفذ بهذا العدد أبداً- قد أساءت إلينا أمام الرأى العام الخارجى وفى دوائر العدالة فى مختلف دول العالم، وأنا أربأ بالقضاء المصرى الشامخ ألا يكون متفهماً للظروف السياسية القائمة والدوافع الدولية المحيطة، مع احترامنا المطلق لهيبة العدالة وكلمة القضاء.
إن القرار الأخير لـ«البرلمان الأوروبى» هو قرار صادم بكل المعانى، لأن الأغلبية التى اتخذ بها ذلك القرار تؤكد أن هناك قصوراً من جانبنا وافتقاداً لوسائل الاتصال المطلوبة وقنوات المعلومات الصحيحة، ولن نستطيع مواجهة ذلك إلا بالموضوعية والصدق والشفافية الكاملة دون تزيين أو مراوغة أو أوهام، متصورين أننا وحدنا أذكى الشعوب وأعظم الأمم!.