عريب الرنتاوي
تنطوي تصريحات الموفد الدولي دي ميستورا، على نبرة تفاؤل بإمكانية التوصل إلى حل سياسي للأزمة السورية ... لقاؤه مع الرئيس السوري بشار الأسد، أعطى الانطباع بأن النظام في دمشق، يبدي قدراً من الانفتاح على “أفكار” الموفد ... والمؤكد أنه – أي دي ميستورا– لا ينطق عن الهوى، بل لديه “حدس” على الأقل، بما هو مقبول وما هو مرفوض من المجتمع الدولي، وبالأخص الولايات المتحدة، مع أننا لا نستطيع الجزم من الآن، بأن ما يأتي به موفد نيويورك، ينسجم أتم الانسجام، مع ما يدور في أروقة صنع القرار في واشنطن.
على أية حال، فإن الموفد الأممي، يأتي بأفكاره في لحظة مختلفة على ما يبدو... من سبقه من الموفدين، اصطدموا بعقبة “الأوهام” المتبادلة والمبثوثة لدى فريقي الصراع المحتدم في سوريا ... المعارضة ومن خلفها تحالف طويل – عريض (تقلص كثيراً هذه الأيام)، كانت مشغولة في عد الأيام الأخيرة لبشار الأسد في الحكم ... وبعدها النظام كان مزهواً بالتقدم الميداني الذي حققه على الأرض على جبهات عدة، ضارباً عرض الحائط حتى مجرد الإقرار بوجود معارضة في البلاد.
اليوم، تبدو الصورة مختلفة تماماً، فقد تقلصت إلى أبعد الحدود، المساحة التي تحتلها المعارضة المُسمّاة “معتدلة” ... “داعش” تدخل كلاعب رئيس على المسرح السوري والإقليمي، مهدداً الجميع، السلطة والنظام والإقليم برمته ... والأطراف المنهكة بنيران حرب أهلية ضروس، تكاد تصل إلى الخلاصة المتوقعة: أن الحسم العسكري في سوريا مستحيل، وأن لا بديل عن الحل السياسي للأزمة، وأن الحرب في هذه البلاد، تكاد تصبح حرباً عبثية، لا وظيفة لها سوى إزهاق الأرواح وتدمير الممتلكات العامة والخاصة، وإعادة سوريا إلى العصر الحجري، ومجتمعها إلى “شريعة الغاب”.
دي ميستورا، يقارب الأزمة السورية بصورة مغايرة لما فعله سابقوه ... هو لا يريد أن يبدأ من حيث انتهى الآخرون، ولا يرغب في معالجة الأزمة “من فوق” وعلى أعلى المستويات، كما أنه لا يرغب الغوص في دهاليز الحل النهائي وتفاصيله ومعاييره ... دي ميستورا يريد أن يفتح هذا الملف “من تحت”، وبصورة موقعية أو موضعية، حتى أنه لم يطرح فكرة وقف المعارك أو وقف شامل لإطلاق النار في عموم سوريا ... تحدث عن “تجميد القتال” في مناطق منتقاة، بدءاً من حلب، عاصمة الشمال، و”مختبر” التنوع السوري.
بهذا المعنى، يريد دي ميستورا أن يبني على النجاح النسبي الملموس الذي حققته تجربة “المصالحات الوطنية” في كثير من مواقع الاشتباك وخطوط التماس والساحات الساخنة في الأزمة السورية، تلك التي أنجزت بجهد سوري خالص، وأحياناً – للمفارقة – بوساطة إيرانية، كما في حمص على سبيل المثال ... هذه المرة، يُراد للأمم المتحدة أن تكون شاهداً ومبشراً ونذيرا.
النظام السوري الذي رأى في مبادرة دي ميستورا، ما هو “جدير بالدراسة”، يرغب في مقاربة هذا الملف على هذا النحو، لا أحد يطالب بإصلاحات شاملة للنظام، ولا أحد يتحدث عن “انتقال سوريا السياسي أو الديمقراطي”، لا أحد يطالب بتنحي الأسد أو تنحيته، لا مطرح للحديث عن “القضايا الكبرى” ... هنا يجد النظام نفسه متقاطعاً مع “مبادرة حلب”، ويرى فيها ما “يستحق الدراسة”، تمهيداً – ربما – للإعلان الرسمي عن قبولها والتعاون في تنفيذها.
لكن ما يمنع النظام من الإسراع – أو التسرع – في قبول المبادرة، هو خشيته غير الخافية على أحد، من أن تتحول هذه المبادرة، إلى حصان طروادة الأممي، لتمرير المشروع التركي، الذي يتحدث عن مناطق عازلة وحظر طيران، لتمكين المعارضة الموالية لأنقرة، توطئة للانقضاض على النظام في دمشق، والكيان الكردي في شمال شرق سوريا ... هنا، يريد النظام مزيداً من الشروحات والضمانات والتطمينات، ويرغب الأسد في التأكد بصورة لا لبس بها، من أن دي ميستورا، جاء ممثلاُ فعلياً للمنتظم الدولي، والشرعية الدولية، لا جسراً لعبور أردوغان وحكومة العدالة والتنمية إلى سوريا.
مصدر ارتياح النظام، وإظهاره قدراً من التجاوب مع “مبادرة حلب” الأممية، أنما يتمثل في حالة “انعدام الحماسة” إقليمياً ودولياً للأطروحات التركية، بل وتنامي القلق والخشية الدوليين من مواقف أنقرة وسلوكها وأجنداتها المعلنة والخفية ... فالمواقف التركية لم تحظ سوى بقبول دولتين اثنتين فاعلتين في الأزمة السورية: تركيا وقطر، أما بقية الدول، فتعطي الأولوية للحرب على الإرهاب، ولا تتردد في توجيه انتقادات علنية ومضمرة، للدور التركي الملتبس والمزدوج في هذا المجال.
ولأن كل شياطين الأرض تكمن في التفاصيل، فإن مما لا شك فيه، أن الأسد أمطر ضيفه الأممي بوابل من الأسئلة والتساؤلات حول المبادرة، وما الذي تعنيه بالضبط، وكيف ستدار المنطقة، ومن هي القوى المشمولة بتجميد المعارك، ودور تركيا والمجتمع الدولي، وعلاقة كل هذا وذاك، ببقية ملفات الأزمة السورية.
ثمة مناخ دولي، سيساعد دي ميستورا على التقدم في مهمته، واشنطن لم تعد معنية بإسقاط الأسد، ولا ترى في هذه المهمة أولوية تتصدر جدول أعمالها ... الحوار الأمريكي الإيراني يتقدم على الرغم من المصاعب الكبيرة التي ما زالت تعترض مفاوضات “مسقط 2” ... ثمة تيار داخل المعارضة السورية في الخارج، يريد حلاً سياسياً، بخلاف مجالس إسطنبول، وهو يجري مفاوضات في موسكو، وسط توقعات كبيرة، بحدوث اختراقات كبيرة ... والأهم من كل هذا وذاك، ثمة قناعة راسخة أخذت تتسرب للقوى المتحاربة ومن يدعمها ويتحالف معها، بأن الحل العسكري وصل إلى طريق مسدود، وأن كلفة استمرار الحرب، أعلى بكثير من كلفة إنهائها بأي شكل من الأشكال ... والأشهر القادمة، ستختبر كيف ستتفاعل كل هذه العوامل وكيف ستؤثر سلباً إم إيجاباً على مهمة الموفد الدولي النشط.