عريب الرنتاوي
جهدت إسرائيل في تفريغ “الأراضي المقدس” من سكانها العرب الأصليين، وعملت بشكل خاص على تبديد شمل الفلسطينيين المسيحيين وطمس تاريخهم ودورهم المؤسس في صنع حضارة هذه المنطقة وصياغة تاريخها ... لكن محاولات دولة الاحتلال والاستيطان والعنصرية، دولة جميع أبنائها اليهود فقط، باءت بالفشل، فالمسيحيون برغم نزيف الهجرة الذي لم ينقطع، ما زالوا مكوناً فاعلاً في المعادلة الفلسطينية، ولطالما رفدوا الحياة الوطنية والسياسية والثقافية والروحية الفلسطينية بكثير من القامات السامقة. ما لم تستطع إسرائيل تحقيقه بكل وسائل العنف والإكراه متعددة الأشكال والوسائل، يسعى “داعش” في تحقيقه على طريقته الخاصة ... بيانات وتهديدات توزع في العاصمة الفلسطينية المحتلة (من الإسرائيليين لتذكير داعش)، تتهدد وتتوعد وتقطع مهلاً زمنية ... تريد لسكان البلاد الأصليين، أن يخرجوا منها إلى المنافي والمهاجر، في ردة وقحة وفجة على “العهدة العمرية”، وفي استهتار لا يضاهيه استهتار، بفصول اللحمة الوطنية والعيش المشترك اللتين عاشهما أبناء فلسطين، قبل وبعد أن يضربهم طوفان الغزوات والهجرات الصهيونية المتلاحقة. والغريب المفجع، أن هذا السلوك الشاذ تزامن مع وقوع تطورين اثنين: الأول (يومي)، وهو منع سلطات الاحتلال المطران عطا الله حنا من الوصول إلى الخليل للمشاركة في مسيرة واعتصام احتجاجيين على أعمال التوسع الاستيطاني، وتوقيفه في مقر المخابرات الإسرائيلية لساعات قبل أن يتم الإفراج عنه ... أما الثاني، فهو من الطراز الاستراتيجي، أو التاريخي بالأحرى، وتجلى في توقيع الفاتيكان على اتفاق مع دولة فلسطين، هو الأول من نوعه، ينظم العلاقات بين الجانبين وبالأخص الوجود الكاثوليكي في فلسطيني، وهو الاتفاق الذي أغضب نتنياهو وحكومته، بالنظر لما قد يفتحه ويترتب عليه، من تطورات وتداعيات. في معرض تبريره لاستثناء إسرائيل من قائمة الأهداف “الجهادية” للتنظيم، جرى الحديث مطولاً عن “منهج صلاح الدين الأيوبي” الذي أخضع الممالك والإمارات المتناحرة لإمارته قبل أن يتفرغ لحروب الصليبيين ... داعش يريد أن يقنعنا بـ الاستثناء الإسرائيلي” من خلال تسويق وتسويغ حربه المفتوحة على “طواغيت” المنطقة وأسيادهم ... لكن كيف سيبرر هذه المرة، حربه على مكون رئيس من مكونات الشعب الفلسطيني، في الوقت الذي ما زال فيه الاحتلال جاثماً على صدور الفلسطينيين جميعاً، وفي الوقت الذي ما زالت فيه دولة الاحتلال “باقية وتتمدد” شأنها في ذلك شأن خلافتهم الإسلامية؟ لم نسمع عن عملية واحدة نفذها داعش ضد إسرائيل، ولم نسمع عن بيان واحد جرى توزيعه في المستوطنات متضمناً التهديد والوعيد اللذين “حظي” بهما مسيحيو فلسطين ... بل أننا نكاد نرى بعض غلاة إسرائيل وعتاة مستوطنيها الأكثر تطرفاً، يتراقصون طرباً وهم يرون من يسعى في إتمام مشروعهم، وتحقيق ما عجزوا عن تحقيقه، ودائماً بوسائلهم “الجهادية” وتبريراتهم “الاجتهادية” التي لم تعد تنطلي على أحد. نعرف أن ليس لـ “داعش” قوة على الأرض في فلسطين، لديها جيوب من المتعاطفين والتابعين متفرقة هنا وهناك، بالذات في مناطق القدس والضفة الغربية ... لكننا مع ذلك، لن نخفي قلقنا من مغبة إقدام بعض “الذئاب المستوحشة” من طراز الذين ضربوا في ليون وسوسة والكويت وقبلها في باريس وبروكسيل، على تنفيذ عمليات انتحارية في كنائس القدس أو أحيائها ذات الغالبية المسيحية، بهدف نقل “الفتنة” ومشروع “الفوضى الخلاقة” إلى فلسطين، وفي مسعى لتفريغ هذه الأماكن من أبنائها، تماماً مثلما طالب البيان المشبوه ذاته. في حمأة الانشغال بمسلسل الجرائم المتنقلة التي قورفت في “الجمعة السوداء”، وأودت بحياة مئات الضحايا من المدنيين الأبرياء، بعضهم وهم ركّع سجود، لم يحظ البيان الداعشي المتوعد لمسيحيي القدس بالويل والثبور وعظائم الأمور، بالاهتمام الذي يستحق، ونأمل ألا يكون ذلك، تعبيراً عن الاستخفاف أو الاستهانة بهذا التهديد ... نأمل أن تأخذ السلطة والمجتمع الفلسطيني بمسلميه ومسيحييه التهديد على محمل الجد، وأن يعملا كل ما في وسعهما لحماية هذه الأماكن والعوائل. هي مسؤولية الاحتلال عن توفير الأمن والحماية لمن يخضعون لسلطته وجبروته بموجب القانون الدولي ... لكنني أظن أن إسرائيل لن يهمها أن ترى الأشلاء والمزق تتطاير في سماء الأحياء العربية في القدس، لتفريغها من سكانها من دون أن تتحمل المسؤولية الرئيسة عن ذلك، سيما بوجود “شماعة” قارفت من الجرائم؛ ما يجعل العالم بأسره، يصدق أي شيء يمكن أن يصدر عنها. لا وجود للسلطة إدارياً وأمنياً في القدس، رسمياً على الأقل، لكننا نعرف أن أذرع الأمن الفلسطيني تصل إلى هناك ... لكنها أذرع ضعيفة ومرتجفة في ضوء الواقع الاحتلالي الراسخ ... الأمر الذي يضاعف من مسؤولية الفلسطينيين مواطنين وفصائل وجمعيات شبابية ومؤسسات مجتمع مدني، لتنظيم شكل من أشكال “الأمن والحماية” الذاتيين، لقطع الطريق على مخطط مشبوه، نجزم بأن أصابع إسرائيل ليست بعيدة عنه، حتى وإن اتُهمنا في هذه النقطة بالذات، بالخضوع لتأثيرات “نظرية المؤامرة”.