بقلم : عريب الرنتاوي
خلال الأشهر القليلة الفائتة، انتعشت آمال الأردنيين بقرب فتح المعابر الحدودية مع سوريا، سيما بعد بدء تطبيق تفاهمات خفض التصعيد جنوباً من ضمن مسار أستانا ... وبدا أن العام الجاري لن يودع أيامه الأخيرة قبل أن تعود حركة الأفراد والبضائع والخدمات إلى سابق عهدها بين البلدين الجارين، ومن سوريا وصولاً إلى لبنان، وربما إلى الأسواق الأوروبية جرياً على ما كان معمولاً به قبل اندلاع الأزمة في العام 2011.
لكن الأيام تمضي، فيما الوضع على المعابر والحدود ما زال على حاله، صحيح أن منسوب العنف والمواجهات المسلحة في جنوب سوريا تراجع مؤخراً، لكن التفاهمات حوله ما زالت هشة وقابلة للانتكاس، سيما في ضوء موقف إسرائيلي ملتبس حيالها، ومعلومات مؤكدة عن تواطؤ تل أبيب مع جبهة النصرة في حزام القنيطرة، ودعمها لها بحجة أنها أقل تهديداً لأمنها من حزب الله والمليشيات الإيرانية، فيما الالتباس ما زال يغلف الموقف الأمريكي أيضاً شرق السويداء، وما يحيط بقاعدة "التنف" من غموض حول دورها ومهامها ومستقبل وجودها كذلك.
في الساعات القليلة الفائتة، ازداد الوضع تعقيداً بعد قيام كل من واشنطن وتل أبيب، على نحو متزامن، ولا ندري إن كان منسقاً، بتصعيد الموقف على جبهتي القنيطرة وشرق السويداء ... النصرة تشن هجوماً دامياً على بلدة الحضر، وإسرائيل تتعهد بحمايتها وتوفير الدعم العسكري واللوجستي لها ... ومعسكر "التنف" يفتح أبوابه لفلول الجماعات المسلحة في البادية الشرقية، لإعادة تجميعهم وتأهليهم للقيام بأدوار لا يمكن الوثوق بأنها تستهدف "داعش" حيث التنظيم الإرهابي الأكثر دموية في التاريخ المعاصر، يفقد آخر جيوبه ومعاقله في كل من سوريا والعراق.، سيما بعد استعادة القائم ودير الزور.
الأردن أظهر اهتماماً جدياً، على الأقل منذ مطلع العام الجاري، لتسهيل التهدئة جنوباً وتسريع فتح المعابر الحدودية، شارك بفاعلية – من موقع المراقب – في مسار أستانا، ولعب دوراً تجسيرياً لتفعيل غرفة العمليات الأمريكية – الروسية – الأردنية، ومارس قدراً من الضغوط على الجماعات المسلحة التي يحتفظ بـ "دالّة" من نوع ما عليها لكي تتجاوب مع مقتضيات التهدئة وفتح الحدود، وبعث برسائل إيجابية لدمشق (لقاء بطرسبيرغ بين عاطف الطراونة ونظيره السوري)، ودائماً بهدف تحقيق ثلاث مصالح أساسية:
الأولى؛ إبعاد شبح التهديدات الإرهابية والحليولة دون وصول "المليشيات المذهبية" إلى خط حدوده مع سوريا ... الثانية؛ تأمين فتح المعابر واستئناف التجارة وحركة السلع والأفراد من وإلى سوريا ولبنان ... والثالثة؛ تمهيد الطريق لإعادة ما بين 200 – 300 ألف لاجئ سوري يقيمون في الأردن ويتحدورن من المناطق الجنوبية.
لكن من الواضح أن هذه الجهود لم تكن كافية بالقدر الذي يسمح بتحقيق هذه التطلعات والمصالح ... فلا التهدئة استقرت وتوطدت، بل يبدو الوضع مرشحاً لجولات جديدة من الاحتكاك والتصادم بفعل ما يجري في "التنف" و"الحضر" ... ولا الحدود والمعابر فتحت على الرغم من انتعاش الآمال والرهانات على قرب فتحها ... ولا اللاجئين، بعضهم، عادوا او هم بصدد العودة جراء ذلك كله.
في الحديث عن المعابر على وجه التحديد، جرت اجتماعات متعددة الأطراف وفي غير مكان، وبمشاركة أطراف متعددة، لكنها لم تصل لنتيجة بعد .... فالفصائل المسلحة تريد مقاسمة الحكومة السورية بعائدات الجمارك ورسوم العبور على معبر نصيب – جابر، وهذا ما لم تقبل به الحكومة السورية، ولن تقبل به ... والمعارضة لم تخل مواقعها ولم توافق على إخلاء هذه المواقع التي تمتد من خط الحدود إلى مسافة ليست بعيدة عن الشيخ مسكين... والمعارضة وإن قبلت بعودة مدنية سورية رسمية إلى المعبر، إلا أنها ما زالت مستمسكة بدورها الأمني والعسكري فيها وحولها، وما زالت تصر على رفع راياتها بديلاً عن العلم السوري ... والمعابر التي تعرضت للنهب والسلب والتخريب، ما زالت بحاجة لمن يعيد ترميمها وتجهيزها.
الفصائل المسلحة التي هُزمت استراتيجياً في سوريا، ما زالت تبحث عن نجاحات تكتيكة في بعض المواقع والجيوب التي ما زالت تسيطر عليها، وبعضها ما زال مرابطاً على امتداد حدود الأردن ومعابره مع سوريا ... مثل هذا الأمر يستوجب تحركاً أردنياً أكثر فاعلية، إما باتجاه إتمام المصالحات بين هذه الفصائل والحكومة السورية، أو بالتنسيق مع دمشق، مباشرة وليس عبر الوسيط الروسي فحسب، لدفع هذه الفصائل بعيداً عن المعابر، توطئة لفتحها، فمصالح الأردن الكبرى في سوريا ومعها، انطلاقاً من هذه المنطقة بالذات، لا يمكن ربطها بحسابات أمراء الحرب وصراعاتهم على الغنائم بعد أن عزّت المساعدات وانكمش السخاء الخليجي كما كشف حمد بن جاسم مؤخراً.
المناخات الإيجابية التي تخيم على أعمال غرفة العمليات الثلاثية (الأردن، روسيا والولايات المتحدة)، لا تعني أن ثمار هذا التنسيق قد باتت ناضجة، والأرجح أن الأردن أكثر من غيره، له مصلحة في دفع مسار التسويات والمصالحة وتطبيع الأوضاع على الجبهة الجنوبية، وهي مهمة متعذرة ما لم يجر تطبيع العلاقات مع دمشق مباشرة، وأحسب أن خطوة جدية في هذا الاتجاه يجد أن تصدر عن الأردن، وبحكم شبكة المصالح الكبيرة التي يتيعن حفظها وتعظيمها والدفاع عنها.
الأردن أعلن أنه لن يتعامل إلا مع جهة رسمية سورية على المعبر، وهذا موقف صحيح ... والأردن لا يكف عن التحرك وإرسال البرقيات المحملة بالاستعدادات الإيجابية للتعاون مع دمشق، وهذا صحيح أيضاً ... والأردن متحمس لمنطقة خفض التصعيد الجنوبية، وهذا صحيح ... لكن الأهم من كل هذا وذاك، أن مصالحنا في سوريا، انطلاقاً من جنوبها، تبدو أكبر بكثير من الجهود المبذولة من أجل صيانتها واستراجعها، والمؤكد أننا بحاجة لمضاعفة هذا الجهد ليلتقي مع حجم هذه المصالح.