لا يكاد يخلو خطاب واحد للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، من تهديد بالرد على هذه الدولة، أو تلويح بالحرب ضد تلك... خطابات نارية تصعيدية، أحالت معادلة علاقات تركيا الخارجية من «صفر مشاكل» إلى «صفر صداقات»...حالة من التحشيد والتعبئة والاستنفار الدائم، يُراد فرضها على الشعب التركي لشد عصبه الديني والقومي، وصرف نظره عن المشكلات الحقيقية التي تواجهها بلاده إن على المستوى الاقتصادي والمالي أو على مستوى السياسة الداخلية.
ينهض الخطاب الدعائي التركي على فرضية «أن تركيا مستهدفة» من قبل أعدائها، من دون تحديد هوية هؤلاء الأعداء ولا طبيعة ذاك الاستهداف... أحيانا يطل علينا الرئيس التركي (الشعبوي بامتياز)، بخطاب يتوعد فيه بمحاربة الأعداء «خارج الحدود» بدل قتالهم على الأرض التركية... والحقيقة أن المراقبين عن كثب للمشهد التركي، يحارون في فهم هذا الخطاب، ولطالما تساءلوا عن هوية الأطراف التي تريد أن تضرب تركيا في عقر دارها.
مثل هذه «البروباغندا» الناهضة على «فرضية دفاعية ـ وقائية ـ استباقية» محضة، لم تنجح في إخفاء «الاستعلائية التركية» حيال جوارها، ورغبة أنقرة بقيادة العدالة والتنمية في استعادة صفحات من تاريخها الإمبراطوري ـ العثماني... تركيا من بين دول قليلة في الإقليم، تبدو محكومة بإرث التاريخ وقيود الجغرافيا، وهي قررت بزعامة أردوغان، أن تطوّع جغرافيتها والجغرافية من حولها، لخدمة أحلامها التاريخية التوسعية.
في سورية، الشمال برمته، وليس محافظة إدلب فحسب، يتصرف الرئيس أردوغان كما لو أنه «صاحب البيت»، فيما السوريون، أصحاب البلاد الأصليين، هم ضيوف ثقال عليه، لا يحق لهم التحرك أو التصرف من دون استئذان.كلمات أردوغان في نقد النظام السوري في دمشق، توحي بذلك، فهو يعتبر تقدم الجيش السوري في محافظة إدلب، «وقاحة منقطعة النظير»، وينذره بالعودة إلى ما وراء نقاط المراقبة التركية في المحافظة في غضون أسابيع قلائل، بل ويتوعد الجيش السوري باستهدافه في كل مكان، إن أصيب جندي تركي واحد، على الأرض السورية بالطبع... هذه الغطرسة، لا تعكس جنون القوة وعظمتها فحسب، بل وتصدر عن إحساس عميق، بأن إدلب هي امتداد الإسكندرون، وحلب وأريافها ليست أكثر من ولاية عثمانية يتعين استعادتها لهيمنة «الباب العالي».
في العراق، وبرغم التطورات النوعية الهامة التي طرأت على المشهد العراقي بعد الهزيمة العسكرية التي ألحقت بداعش، تصر أنقرة على الاحتفاظ بقواتها، وتدعي حماية مواطنين عراقيين من أصول تركية في بعض مناطق شمال شرق العراق... بل وترى تركيا أن لها «الأحقية» في صياغة مستقبل العراق، من دون أن تنسى أن الموصل وكركوك لم تعد من «أعمال الإمبراطورية وأمصارها»، وأن العراق بلد سيد مستقل، لأبنائه وحدهم الحق في تقرير مصيره ومصائرهم.
الرغبة التركية الدفينة في الثأر من نتائج الحرب العالمية الأولى، ومعاهدتي سيفر ولوزان، ليست خافية على أحد، هم قالوا ذلك على أية حال، عندما أبرموا اتفاقات أمنية مع حكومة فايز السرّاج في طرابلس الغرب، وتقاسموا معها، وهي التي بالكاد تسيطر على العاصمة، مياه البحر المتوسط ومناطقه الاقتصادية، ضاربة عرض الحائط بمصالح وحقوق دول عديدة، من مصر حتى اليونان، مرورا بقبرص...ثمة غطرسة تركية في التعامل مع هذا الملف، من دون الأخذ بنظر الاعتبار مصالح الآخرين ومواقف دول وتكتلات دولية كبرى، من بينها الاتحاد الأوروبي، ودائما تحت طائلة التهديد والوعيد، والنبش في صفحات التاريخ، وتحشيد الرأي العام وتعبئته وتحريضه، ونشر خطاب الكراهية وصراع الحضارات والأقوام.
حتى اليونان، جارة تركيا اللدودة، الدولة العضو في الاتحاد الأوروبي وشريك أنقرة في حلف الناتو، لم تسلم بدورها من خطاب الوعيد والتهديد، فالنزاع حول جزر بحر إيجة، يطل برأسه من جديد، واللغة المعتمدة أقرب ما تكون إلى «قرع طبول الحرب»، حتى في الوقت الذي لا تكف فيه أنقرة عن حث حلف الأطلسي لدعمها في حربها في سورية وعليها، وآخر تلك الدعوات ما صدر مؤخرا بنتيجة التصعيد في إدلب.لا أحد من حلفاء أنقرة وأصدقائها، نجا من شظايا اللسان التركي السليط... لقد بدا للمراقبين أن علاقة «السلطان العثماني الجديد» بـ»القيصر الروسي الجديد»، قد دخلت شهر عسل طويلاً، سيما بعد صفقة صواريخ S 400 وأنابيب الغاز الروسي، لكن بوتين لم يسلم من «القصف التركي العشوائي» والاتهامات التركية لروسيا تكاد تضع البلدين على حافة مواجهة عسكرية مكلفة بينهما... الحال ذاته ينطبق على إيران، شريكة البلدين في مسار أستانا، التي كال أردوغان لها مختلف أنواع الاتهامات والشتائم في الآونة الأخيرة.
لا خطوط حمراء للدبلوماسية التركية، ولا أحد معصوم عن القصف العشوائي والمركز الذي لا تكف مدافع أردوغان الصوتية عن إطلاقه... رجل وضع بلاده في خانة يصعب على خصومه وأصدقائه الاطمئنان لها، فأنت الصديق والحليف اليوم، وأنت «العدو» و»الشرير» غداً..اليوم تطلق سهام الاتهامات والتهديدات لأوروبا بإغراقها بطوفان من اللاجئين والإرهابيين، وغدا تتهم الولايات المتحدة بقيادة محاولة الانقلاب الفاشلة والتآمر على وحدة تركيا، وبعد غدٍ تصبح موسكو وطهران هما الخصمان اللدودان، وبين هذا المحور وذاك، تبدو القيادات العراقية والسورية والمصرية والسعودية والإماراتية والقبرصية واليونانية في دائرة الاتهام والتنديد على الدوام.
لا أعرف دولة تفعل شيئاً مماثلاً، إذ حتى في مراحل الخصومة والمواجهة، ينجح القادة والديبلوماسيون بالتحكم بغضبهم ومشاعرهم، ويضبطون ألسنتهم عن قول الكلام القبيح وإطلاق التهديدات النارية.في تركيا اليوم، لا شيء من هذا يحصل، والسياسيون والدبلوماسية والجنرالات هناك، «على دين ملوكهم»، فهم لا يتورعون كذلك، عن الذهاب حتى آخر مدى في إطلاق الاتهامات والتهديدات وحتى الشتائم للخصوم والأصدقاء الذي هم مشاريع أعداء كامنين.
والمؤسف حقاً، أن سوية الأفعال التركية لا تتناسب دائماً مع مستوى العنف اللفظي الصادر عن قادتها، ولا مع سقوف تهديداتهم وطموحاتهم... فالرجل الذي حمل على الولايات المتحدة وإسرائيل على خلفية «صفقة القرن»، يستحث واشنطن و»الناتو» على دعمه عسكرياً، فيما حربه الحقيقية قبل وبعد إعلان الصفقة، تكاد تتركز مع خصوم الصفقة ورعاتها... إنه كسائق السيارة، الذي يعطي إشارة انعطاف لليسار، ولكنه يتجه يمينا عند أول منعطف.
إنها سياسة «الرقص على حافة الهاوية»، يُراد بها داخليا شدُّ العصب وإثارة المخاوف وكسب تأييد عامة الناس، ويراد بها خارجيا تحسين شروط التفاوض لا أكثر ولا أقل.
تلكم هي قصة التهديدات التركية الكبرى اللفظية، والتي تنتهي غالبا إلى تسويات وتهدئة وحلول وسط، فآخر ما تحتاجه تركيا الغارقة في بحر من الخصومات والتحديات الداخلية والخارجية، هو الانجرار إلى مواجهات عسكرية شاملة، مع قوى إقليمية ودولية وازنة، أو إحداث القطع والقطيعة مع دول ومحاور أخرى.إنهم دائما يهبطون عن قمم الأشجار التي يتسلقونها بأقدامهم وأيديهم، وغالباً بسرعة أكبر مما يتخيل كثيرون.
قد يهمك أيضا :
«صفقة القرن»... إطار للحل أم توطئة للانفجار؟!
حرب تركيا وإسرائيل، ومن خلفهما واشنطن، على سورية