بقلم : عريب الرنتاوي
يجادل خبراء ومختصون منذ عدة سنوات، بنهاية عصر «الإسلام السياسي»، مستندين في ذلك إلى شواهد من بينها:
1 ـ الأثر المُنفّر الذي أحدثه صعود «داعش» و»النصرة» في السنوات العشر الأخيرة على الرأي العام العربي بعامة وليس في الدول التي ضربها «زلزال الإرهاب» بقوة مثل سورية والعراق فقط...
2 ـ إخفاق عدد من تجارب الإسلام السياسي في الحكم (السودان، مصر على قصر التجربة، «حماس» في قطاع غزة، وأخيرا تجربة الإسلام السياسي بطبعته الشيعية في كل من إيران والعراق وبدرجة أقل في تونس والمغرب)...
3 ـ التحولات المثيرة للقلق والنفور التي آلت إليها تجربة الإسلام السياسي التركي، والتي راهن كثيرون على قدرتها على «تكييف» الإسلام مع قيم العصر وقواعد الديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان، إذ انتقل من نموذج جاذب لكثير من الحركات السياسية والفكرية الإسلامية وغير الإسلامية، إلى مصدر قلق من «النزعات العثمانية التوسعية» في الخارج، وعودة الأوتوقراطية و»حكم الفرد» في الداخل.
4 ـ الانتهازية السياسية التي طبعت تجربة وممارسة كثير من هذه الحركات، في الحكم وخارجه، وتقلبات مواقفها وتحالفاتها، وتعدد انتقالاتها من خندق إلى خندق، وتفشي مظاهر الفساد في بعض أوساطها، أسقط عنها لبوس «التقوى»، وأزاح من فوق رؤوس قادتها «هالة القداسة».
5 ـ عجز معظم إن لم نقل جميع هذه الحركات، عن تقديم رؤى ونماذج اقتصادية واجتماعية للحكم، بديلا عن أنظمة الجنرالات والسلالات، وانكشاف هزال خبراتها في إدارة الدولة والمجتمع، وضعف نفوذها في أوساط النخب الفكرية والثقافية والعلمية الحديثة، واعتمادها على «جيوش» من الوعاظ والمرشدين و»العلماء» الذين لا يعرف أحد، كيف اكتسبوا هذه الصفة «العلمائية» ومن أين جاؤوا بها...
6 ـ ضعف قدرة هذه الأحزاب والحركات على إدارة شبكة العلاقات الدولية المعقدة لدولهم وبلدانهم، وضمان مصالحها في عالم شديد التعقيد، سريع التغير والتبدل.
والحقيقة أن أية قراءة معمقة في تجارب حكم الإسلاميين في المنطقة، على اختلاف مدارسهم، تفضي إلى خلاصة مفادها، أن هذه الحركات، السنيّة منها بخاصة، بلغت ذروة صعودها في السنوات الخمس الأولى التي أعقبت اندلاع ثورات الربيع العربي وانتفاضاته، وهي منذ ذلك التاريخ، تشهد هبوطاً في نفوذها وصدقيتها وقدرتها على حشد الرأي العام وقيادته.
ولنبدأ بتركيا، التي تحولت إلى قِبلة ومحج لمختلف حركات الإسلام السياسي السنيّة، وكانت موضع رهان الباحثين والدارسين في الشرق والغرب، حول «صلاحية» هذه الطبعة من الإسلام السياسي في استحداث «التزاوج الضروري» أو «المصالحة التاريخية» بين ثنائيات شرخت الفكر السياسي العربي: «الإسلام والعلمانية»، «الإسلام والديمقراطية»، «الإسلام والقومية».
لقد استبطنت التجربة في بداياتها إرهاصات «نقلة نوعية» في فكر وتجربة السياسي الإسلامي، بيد أن التحولات التي صاحبت صعود «ظاهرة الأردوغانية» تزامنا مع بدايات الربيع العربي، وتحديداً في سورية، والنجاحات التي حققها حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان، في اختراق وتحكيم قلاع «العلمانية الأتاتوركية» الواحدة تلو الأخرى: المدرسة، الجامعة، القضاء، الإعلام، الجيش والرئاسة، برهنت بما لا يدع مجالاً للشك، بأن طريق الإسلاميين نحو الديمقراطية، ليس ذا اتجاه واحد، وأن فرص انتكاستهم لشكل من أشكال الأوتوقراطية أو حتى الشمولية (توتاليتارية) تبدو أكبر بكثير من حظوظ استمرارهم على طريق التحول الديمقراطي، لا سيما بغياب قوى وازنة، في الدولة أو المجتمع، قادرة على كبح جماح انتكاساتهم وتراجعاتهم.
«النموذج التركي» الذي بدأ جاذباً لإسلاميين وعلمانيين كثر، لم يعد له من يؤيده سوى التيارات الإخوانية الأكثر «أصولية» ومدارس سلفية وحتى «جهادية» مصنفة إرهابية كما في تجربة «جبهة النصرة»... هذه النموذج الذي بدأ يتآكل داخل تركيا، بدلالة نتائج الانتخابات الأخيرة، يتحول إلى عامل مزعزع للأمن والاستقرار الإقليميين، مشتبك مع دول وأطراف وتكتلات كبرى، منتقلاً من نظرية «صفر مشاكل» إلى واقع «صفر أصدقاء»... وربما هذا ما حدا بأحد أبرز قادة ورموز هذا التيار، الرئيس التركي السابق عبد الله غول للقول بـ»انهيار الإسلام السياسي» وإطلاق التحذيرات من مغبة استمرار تركيا في الطريق الذي يقوده سلطانها.
في مصر، وبرغم تردي أحوال الحريات وحقوق الإنسان، وتفاقم أحوال المصريين الاقتصادية والمعيشية، لم تستطع جماعة الإخوان المسلمين، بعد خسارتها الحكم في حزيران 2013، من إعادة بناء صفوفها، وثمة تقارير ودراسات، تؤكد أن هذه الجماعة أخفقت في استثمار «خطاب المظلومية» الذي اشتهرت هذه الجماعة في توظيفه لإدامة شعبيتها ونفوذها، حتى أن كثيرين ممن لم يتوانوا عن التحالف مع الجماعة زمن ثورة يناير وما بعدها، ما عادوا يستسيغون تكرار التجربة بعد أن تكشفت ميول الجماعة «الإقصائية»، وظهرت لهم مفاعيل نظرية «التمكين» الضاربة جذورها في عمق فكر الجماعة وممارسته، تلك النظرية التي تعلي من شأن الجماعة، وتضعها في مكانة متقدمة على الدولة.
في تونس، ما زال حزب النهضة، الطبعة الأكثر مدنية من بين جميع الفروع الإخوانية، يتصدر قائمة الأحزاب التونسية في الانتخابات، للوهلة الأولى على الأقل، لكن التدقيق في نتائج الانتخابات التونسية، يظهر أن هذا الحزب فقد في غضون ثمانية أعوام، ثلثي طاقته التصويتية، بخسارة تقدر بمليون صوت، ما بين أول انتخابات في 2011 وآخرها في 2019.
أما المغرب، فإن حزب العدالة والتنمية الذي يحتفظ لنفسه بمسافة عن جماعة الإخوان، وتصدر سلسلة من الانتخابات البرلمانية والجهوية، يواجه اليوم، سلسلة من الأزمات المتناسلة، بعضها عائد لصراعات داخلي، وبعضها الآخر مرتبط بعدم تميزه في تجربة الحكم وإدارة الدولة، فضلاً بالطبع عمّا أثير من قضايا تتعلق بسلوكيات ونزاهة بعض وزرائه ونوابه وقادته.
حتى جماعات الإسلام السياسي القابعة على مقاعد المعارضة في عدد آخر من الدول العربية، لا تبدو في وضع أفضل عن نظيراتها المتربعة على سدة الحكم... فهذه المنطقة على ما يبدو، محكومة بنظرية «الأواني المستطرقة» في الفيزياء، وكل صعود لهذه الحركة في دولة بعينها، يرافقه صعود في دول أخرى وكل هبوط هنا يفضي إلى هبوط هناك.
أما الإسلام السياسي الشيعي، فقد ارتبط صعوده بانتصار الثورة الإسلامية في إيران، مع أنه كان حاضراً في بعض الساحات العربية قبل العام 1979، وتحديدا بعد الحرب الأميركية على العراق في العام 2003، وتنامي نفوذ إيران الإقليمي، ونجاحها في ملء فراغ القوى الدولية والعربية في عدد من الساحات (العراق، اليمن، سورية ولبنان).
لكن ما تشهده إيران من احتجاجات شعبية، وضعف إقبال غير مسبوق على صناديق الاقتراع كما في الانتخابات الأخيرة، واندلاع احتجاجات شعبية واسعة في مناطق نفوذ الأحزاب والميليشيات التابعة لها في العراق ولبنان، تشي بأن عصر الإسلام السياسي في طبعته الشيعية، يؤذن بالرحيل كذلك، وأن مرحلة «ما بعد الإسلام السياسي» لن تقتصر على الإسلام السني وحده، بل ستطاول الإسلام السياسي الشيعي بالقدر ذاته.
لا يعني ذلك، أن الساحات والشوارع العربية، ستصبح خلوا من هذه الحركات بين عشية أو ضحاها، أو أنها خرجت من التداول السياسي والبرلماني، كما أن ذلك لا يعني أن بدائل هذه الحركات، ستنبثق من رحم حركات مدنية ديمقراطية وعلمانية.
مثل هذا التقدير ينطوي على كثير من التسرع و»التطيّر»... فالقوى المدنية العربية ما زالت ضعيفة ومبعثرة، تتخبط في «تيهها» وانقساماتها الداخلية، وهي ما زالت تراوح بين حدين: الإسلام السياسي الذي طالما حظي بقاعدة جماهيرية عريضة من جهة، وأنظمة الفساد والاستبداد، العسكرية والسلالية من جهة ثانية.
وإلى أن تنجح المجتمعات العربية، وقواها المدنية الحية، في اجتراح البدائل، وخلق «المعادل الموضوعي» للإسلام السياسي، فإن من السابق لأوانه «نعي» هذه الظاهرة والتبشير بما بعدها، كما أن انتظار الانتقال الديمقراطي لدولنا ومجتمعاتنا من دون توفر هذا الشرط، سيكون ضرباً من السذاجة وأحلام اليقظة.