سنوات الجامعة وزمن «التململ»
آخر تحديث GMT 11:03:39
 فلسطين اليوم -

سنوات الجامعة وزمن «التململ»

 فلسطين اليوم -

سنوات الجامعة وزمن «التململ»

بقلم :عريب الرنتاوي

كانت سنوات الجامعة الأردنية الثلاث (1974-1977) سنوات مفصلية في حياة جيل من النشطاء السياسيين والمثقفين الأردنيين، وسترتسم المصائر والوجهات، الشخصية والعامة، لأعداد كبيرة من أبناء ذاك الجيل، في ضوء مجريات تلك الأعوام السمان ... على أن الجامعة لم تكن وحدها، ساحة العمل السياسي والثقافي والفكري لجيلنا، فمقاهي وسط عمان ومكتباته، فضلاً عن بيوت الزملاء والرفاق، كانت بدورها مسرحاً لأعمق وأسخن السجالات السياسية والإيديولوجية.

سأتعرف في الجامعة على سمير الحنيطي، طالب الكيمياء ورجل الأعمال المرموق بعد ذلك، وستضيق بأفكارنا اليسارية «المتطرفة» عباءة الجبهة الشعبية، التي كانت تشكو من «صراع أجيال»، لم يكن الرعيل الأول من قادة الجبهة في الأردن، قد استأنف نشاطه المعتاد، بعضهم كان في السجن وبعضهم الآخر كان قد أفرج عنه للتو، وأخضع لرقابة أمنية مشددة، تركت الساحة لنشطاء شباب، ضاقوا ذرعاً بالقيود التنظيمية والتحسبات الأمنية التي فرضت عليهم آنذاك.

وجدنا في الجامعة، في سنتنا الأولى، من هم مثلنا ويشبهوننا، وإن كانت الفكرة أقل وضوحاً بالنسبة لهم، ووجدنا في خارجها جماعات أخرى، لم تكف عن «التململ»، وهذا التعبير كان دارجاً في تلك الفترة، وأحسب أنني أخذته عن عبد الله حمودة، القيادي السابق في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الذي كان «يتململ» بدوره، وربما ما زال حتى يومنا هذا، رغم أن «تململه» اتخذ مسارات وسياقات جديدة .... وكلما كنا نُسأل عن حال «التغيير الثوري» في الأردن، كنا نجيب بأن «الرفاق يتململون.

وسنرتبط أنا والحنيطي بصداقة حميمية، حتى أننا كنا «ثنائياً» ما أن يُشَاهد أحدنا في مطرح، حتى يُسأل عن الآخر، وأذكر أن سمير جاءته قطعتا قماش من عمه «الثري» في الخليج، لتفصيل بدلتين تليقان بطالب جامعة، فإذا به يستجرني إلى خياط في «سوق مانكو» وسط البلد، ويضعني تحت الأمر الواقع، لينتهي الأمر بي بعد أسبوعين، مرتدياً أول بدلة في حياتي، كانت كلفة الخياطة بضعة دنانير، وكان مبلغاً عصياً على التدبير، لكن عمّ سمير، المتفهم رغم الغربة والاغتراب، والذي سيصبح لاحقاً «حماه»، حرص على إرسال كلفة حياكة البلدتين، كما فهمت من سمير، أو ربما كما ادعى، لرفع الحرج عني... سيعوضني سمير عن فقدان أصدقاء كثر بالسفر؛ جواد البشيتي، سليمان الخياط وسهيل صباح بعد أول سنة في الجامعة، وآخرين كثر، تفرقت بهم السبل.

وسننجح في غضون وقت قصير، في ضم أعداد كبيرة من الطلبة والطالبات من أبناء الضفتين إلى صفوف «الفكرة اليسارية» التي كنا نبشر بها ونروج لها، سيأتينا محمد صلاح من نابلس ووحيد الحمد الله وعدد كبير من الطلاب والطالبات من جنين ونابلس ... وسنتعرف، سمير وأنا على مجموعة يسارية أخرى، تشكلت على نحو مستقل عنا، من طلبة الكليات الإنسانية، كانوا من ضمن الدائرة العريضة لما كان يُعرف بـ»يسار فتح»، في مقدمتهم المرحوم هاشم حجازي، الذي سيتزوج لاحقاً من رفقيتنا «عُليا»، وضمت المجموعة كذلك كلا من سلمان نقرش وياسين زايد ياسين، وسنتعرف من خلالها على غازي رشراش هديب وفرج أبو شمّالة، وسيكون منزل الأخير في الهاشمي، ووالدته المرحومة، حضناً وحاضنة لنا وللقاءاتنا التي لا تعد ولا تحصر.

وسيقودنا الصديق حسن الغلبان من مخيم شنللر، والذي رافقنا جواد وأنا منذ سنوات، للتعرف على مجموعة ثورية أخرى، كانت خارجة للتو من سجن الجفر، هؤلاء كانوا من الكوادر القيادية في الجبهة الشعبية، إلا أنهم آثروا من داخل سجنهم، الالتحاق بما أسمي في حينه بـ»الظاهرة اليسارية» في الجبهة الشعبية، والتي ستنفذ انشقاقاً عن المؤتمر الثالث للجبهة الشعبية في آذار من العام 1972 بقيادة العراقي أحمد فرحان «أبو شهاب»، كان أعضاء المجموعة يكبروننا سناً بما لا يقل عن عقد من الزمان، وكانت لديهم قصص وحكايات عن رموز في العمل اليساري الفلسطيني، كنا نسمع بها ولم نكن قد التقيناها بعد، وكان من بين أبرز أفراد المجموعة، مأمون سليمان (خالد عبد الكريم) و»سيّد» ومحمد الخطيب الذي سيدخل كلية الزراعة بعد خروجه من السجن، ولينقطع عن الدراسة لتسع سنوات أخرى، بعد اعتقاله مجدداً بقضية «حزب العمال الشيوعي الفلسطيني»، ثم يعاود دراسته بعد استئناف الحياة الحزبية والبرلمانية في العام 1989، ليستقر به الحال في قطاع غزة بعد التخرج وحتى يومنا الحاضر.

على خط موازٍ، وفي زمن «الفورة» و»التململ»، ستتحول مقاهي»الأردن» و»الأمانة» و»السنترال» وسط البلد، إلى «مقرات قيادية» لليسارين الثوريين ... هناك سأتعرف على يحي عوض النعيمات، الذي سيشتهر لاحقاً كشاعر مرموق وصحفي بارز باسم أمجد ناصر، كما سيصبح بعد أربع أو خمس سنوات «عديلي» كذلك، وسنتعرف منه على تفاصيل أوفى عن «حزب الشعب الثوري الأردني»، وستُذكر أسماء مثل زهرة المعاني وبناتها نتاشا ونفرتيتي ومنى وأبناء عمومته هاني النميري ويحي النعيمات «جونيور»، وسأسمع لأول مرة باسم محمد داودية بوصفه ناشطاً في هذه المدرسة، من دون أن ألتقيه في حينها أو اتعرف عليه ... كان أمجد بدوره قد اختط لنفسه طريق التمرد على كل ما هو سائد في الأدب والشعر والسياسة والروابط العائلية والعشائرية، كان نقدياً بحق، و»أقصوياً» مثلما كنا عليه، ولهذا لم يكن التوافق والتناغم بيننا يتطلب جهودا خاصة أو عناء كبيراً.

وسنعرف أن هذه المجموعة ومن يحيط بها من شباب ونشطاء، ضاقت ذرعاً بالسقف السياسي – الفكري – الثقافي الخفيض للحزب، وسنتلمس توقهم البالغ ضفاف توقنا، لإطلاق حركة ثورية كفيلة بتغيير مجرى «التاريخ»، وعلى الرغم من تباين اهتماماتنا وأولوياتنا، وهو المنشغل بالشعر والأدب، إلا أننا كنا دائماً ما نجد قواسم ومشتركات، تجمعنا وتعزز لقاءاتنا، قبل أن يغادرنا أمجد، ومن دون إخطار أو إشعار مسبق، أو حتى كلمة وداعية، لأعرف بعد عام أو اثنين أنه في بيروت، بحثاً عن فضاء آخر وعوالم جديدة.

لم يقتصر «التململ» على مجموعة الشباب اليساريين، الذين «تمردوا» على أحزابهم وفصائلهم وتياراتهم اليسارية السائدة ... صديق المدرسة الثانوية وسنة أولى جامعة، المرحوم موسى فودة، وبعد فترة وجيزة في جامعة الموصل في العراق، سيعرفني على النقابي عصام أبو فرحة، وهو من «يسار البعث»، السائر نحو التحول إلى الماركسية –اللينينية»، كان بدوره من ضمن مجموعة من رفقائه «المتململين»، شرعنا في حوار، امتدت ساحاته من مقهى السنترال إلى منزل في جبل التاج، وضمت المجموعة إلى جانب عصام، كلا من سمير الحباشنة وياسين الطراونة وعبد الله الهواري وآخرين، وهناك سأتعرف على المرحوم حمدان ارشود الهواري، الذي يصغرني بسنة، وسيكون له دور فاعل في تأسيس ما سيعرف لاحقاً باسم «المجموعات الديمقراطية الثورية»، قبل توافيه المنية بعد فترة وجيزة من الإفراج عنه وهو المعتقل على ذمة قضية «حزب العمال الشيوعي الفلسطيني».

كان حمدان مثالاً للطالب الريفي الهابط من تحضير أو استئذان على ضوضاء المدينة وصخبها، كان نموذجا للصدق والبراءة وعمق الالتزام، إن قال فعل وأوفى، كان صلباً كالجلمود، لكنه أيضاً كان محباً للخبز، وطالما شاركنا أرغفتنا تاركاً بقية طعام وجبة الغداء في مطعم الجامعة... فُجعت بوفاته بعد صراع مع المرض العضال، وزاد من فجيعتي الشخصية، أنني قرأت في رسالة بعث بها إليّ وأنا في بيروت، يقرئني السلام ويستذكر أيامنا الخوالي، ويشركني بحلمه الصغير في ملء فمه بالجبن فقط، من دون اضطرار لحشوه بالخبز ... يا الله، لقد اقشعر بدني وأنا أمر بين كلمات الرسالة وحروفها المكتوبة بخط دقيق، وحتى الآن، لا أعرف كيف وصلتني رسالته، بيد أنني أظن أنه سربها مع والدة فرج أبو شمالة رحمها الله، في إحدى زياراتها المتكررة لمجموعة المعتقلين، لتنقلها إلى «الشباب» خارج السجن، الذين تولوا بدورهم إيصالها إلي في بيروت.

أمام هذا التنوع في مشارب ومنابع المجموعات اليسارية والثورية، لم نجد اسماً أفضل من «المجموعات الديمقراطية الثورية» لنطلقه على أنفسنا، فنحن نسير في اتجاه واحد، بيد أننا مختلفون، وثمة في خلافاتنا بعد فكري وسياسي، وثمة بعد شخصي، تحدده رغبة البعض منا في القيادة الزعامة، ما عطل اندماجنا في حزب واحد، على أننا سننجح بعد حين، في صهر مجموعة واسعة من مختلف هذه المجموعات، بوصفها الحلقة الرئيسة المتزعمة لهذا الحراك ... ، وهذا ما سنتحدث عنه في مقالة لاحقة.

المصدر : جريدة الدستور

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

سنوات الجامعة وزمن «التململ» سنوات الجامعة وزمن «التململ»



GMT 09:53 2021 الأحد ,03 كانون الثاني / يناير

سؤالنا وتجربتهم

GMT 09:19 2020 الخميس ,30 تموز / يوليو

تونس على صفيح الصراع الإقليمي الساخن

GMT 09:05 2020 الخميس ,23 تموز / يوليو

العراق بين زيارتين وثلاث قذائف

GMT 06:33 2020 السبت ,18 تموز / يوليو

هل بات «الضم» و«صفقة القرن» وراء ظهورنا؟

إطلالات هند صبري تلهم المرأة العصرية بأناقتها ورقيها

القاهرة ـ فلسطين اليوم
تعَد هند صبري واحدة من أبرز نجمات العالم العربي، التي طالما خطفت الأنظار ليس فقط بموهبتها السينمائية الاستثنائية؛ بل أيضاً بأسلوبها الفريد والمميز في عالم الموضة والأزياء. وفي يوم ميلادها، لا يمكننا إلا أن نحتفل بأناقتها وإطلالاتها التي طالما كانت مصدر إلهام للكثير من النساء؛ فهي تحرص على الظهور بإطلالات شرقية تعكس طابعها وتراثها، وفي نفس الوقت، تواكب صيحات الموضة بما يتناسب مع ذوقها الخاص ويعكس شخصيتها. إطلالة هند صبري في مهرجان الجونة 2024 نبدأ إطلالات هند صبري مع هذا الفستان الأنيق الذي اختارته لحضور مهرجان الجونة 2024، والذي تميّز بأناقة وأنوثة بفضل قَصته المستوحاة من حورية البحر، مع زخارف تزيّنه وتذكّرنا بقشور السمك. وهو من توقيع المصممة سهى مراد، وقد زاد سحراً مع الوشاح الطويل باللون الرمادي اللامع وبقماش الساتان، ال...المزيد

GMT 17:36 2020 الثلاثاء ,27 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج الجوزاء الإثنين 26 تشرين الثاني / أكتوبر 2020

GMT 10:19 2019 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

الأحداث المشجعة تدفعك إلى الأمام وتنسيك الماضي

GMT 16:13 2014 الأربعاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

الدكتورة أميرة الهندي تؤكد استحواذ إسرائيل على ثلث المرضى

GMT 22:32 2016 الثلاثاء ,08 تشرين الثاني / نوفمبر

عروض فنية للأطفال في افتتاح مسرح "متروبول"

GMT 06:02 2019 الخميس ,25 إبريل / نيسان

تألق سويفت ولارسون وكلارك وصلاح في حفل "تايم"

GMT 14:01 2020 الخميس ,06 شباط / فبراير

تجاربك السابقة في مجال العمل لم تكن جيّدة

GMT 09:04 2019 الثلاثاء ,01 كانون الثاني / يناير

سكارليت جوهانسون تُوضِّح أنّ وقف تقنية "deepfake" قضية خاسرة

GMT 06:31 2018 الإثنين ,17 كانون الأول / ديسمبر

خبراء يكشفون عن أسوأ 25 كلمة مرور تم استعمالها خلال عام 2018

GMT 15:38 2018 الجمعة ,07 كانون الأول / ديسمبر

أحمد أحمد يتوجّه إلى فرنسا في زيارة تستغرق 3 أيام

GMT 09:02 2018 الجمعة ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

"إسبانيا" الوجهة المثالية لقضاء شهر عسل مميز

GMT 04:53 2015 الأحد ,15 آذار/ مارس

القلادة الكبيرة حلم كل امرأة في موضة 2015
 
palestinetoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

palestinetoday palestinetoday palestinetoday palestinetoday