شدني الفضول إلى تقليب صفحات أرشيف "الدستور" بحثاً عن مقالات قديمة، كنت عرضت فيها الحاجة للتفكير بـ"الخطة ب" إن تعثرت عملية السلام ووصلت طريقاً مسدوداً، وتآكل حل الدولتين، وسقطت فكرة الدولة الفلسطينية، القابلة للحياة، والتي تشكل من منظور استراتيجي أردني خط الدفاع الأول عن مصالح الأردن وأمنه واستقراره، وهويته وكيانيته ... عثرت على العديد من المقالات التي تذهب في هذا الاتجاه، على أن تاريخ أقدمها يعود وفقاً للأرشيف، إلى 22 ديسمبر عام 2010، مع أنني أذكر حوارات بهذا الشأن وهذا المضمون، دارت قبل ذاك التاريخ بعامين أو ثلاثة أعوام على أقل تقدير.
مقالة اليوم، تحمل العنوان ذاته للمقال المنشور قبل ثمانية أعوام، وفي هذه الزاوية بالذات، وجاء فيه " قد لا يكون الأردن أكثر الأطراف حماسةً لعملية السلام، لكنه بكل تأكيد، أكثرها تحذيراً من النتائج "الكارثية" المترتبة على فشل هذه العملية وانهيارها، ومن يتتبع الخطاب الرسمي الأردني على هذا الصعيد، يلحظ أنه منذ بضع سنوات، لم يتوقف عن إطلاق التحذير تلو التحذير، وإعطاء المهلة تلو الأخرى، لتدارك الفشل وقطع الطريق على تداعياته الوخيمة".
لم تفلح التحذيرات ولا المهل الممنوحة لتدارك الفشل، الوضع ازداد سوءاً وتعقيداً، لكن للأردن ما يبرر قلقه من انهيار حل الدولتين، فبعد فلسطين "هو الأكثر تضرراً من تآكل فرص قيام دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس وعدم حل قضية اللاجئين الفلسطينيين وفقا لقرارات الشرعية الدولية، والمسألة هنا تتخطى الجغرافية (جزء من الحدود الأردنية لم يُرسّم بعد) والديموغرافية (من هو الأردني، من هو الفلسطيني)، إلى مسألة الأمن، الكيان والكينونة والكيانية، السيادة والاستقلال والهوية"، هذا ما جاء في المقال القديم.
المقال عبّر عن الأسف، ونحن اليوم نشعر بالأسف ذاته، وربما بصورة أعمق، لأننا "لا نلحظ انعكاساً مباشراً لهذا القلق وتلكم التحذيرات، على أجندة العمل الوطني الأردني على اتساعها وتعدد أطرافها، ولا نرى لها أثراً يذكر في برامج الحكومات المتعاقبة"... يومها كنّا متهمين بكوننا "مسكونيين بهاجس الأسئلة عن مرحلة ما بعد فشل عملية السلام، وما بعد تعذر قيام الدولة الفلسطينية، وما بعد سقوط خط الدفاع الأول عن الأردن" من قبل مسؤولين كثر ... اليوم يبدو أن المسؤولين أنفسهم قد باتوا مسكونين بهواجسنا القديمة – الجديدة، وليس نحن فحسب.
يومها واليوم، نقول: أن "المنطق والمصلحة العليا يقتضيان.... أن تكون الدولة متوفرة على "خطة ب"، للعودة إليها في حال وصلت "الخطة أ" إلى طريق مسدود...نحن نعرف "الخطة أ"، ونعرف أنها تتمحور حول دعم عملية السلام بـ"الباع والذراع"، وهذا ما فعلناه طيلة سنوات وعقود من جدوى، ولكننا لا نعرف شيئاً عن "الخطة ب"، بل ولا نعرف إن كانت مثل هذه الخطة موجودة فعلاً أم أن أمر بلورتها وصياغتها، متروك لقادمات الأيام، ولمرحلة ما بعد فشل "الخطة أ"... هكذا كان الحال قبل ثماني سنوات، وأحسب أن "واقع الحال مقيم"، وليعذرناالمبدع المرحوم ناجي العلي على استعارة عبارته الشهيرة التي اعتاد أن يضعها على كاريكاتيراته القديمة، التي يعيد نشرها، عندما يكون مجازاً: "ناجي العلي على سفر وواقع الحال مقيم".
يومها أسهبنا في الشرح، وقلنا "لكيلا يفهم من كلامنا أننا نتوقع من الأردن أن ينتقل من خندق دعم عملية السلام والرهان عليها بكل شيء، إلى خندق معارضتها أو مقاومتها... و أننا ندعو الأردن لنقل بندقيته من كتف إلى كتف، والانتقال من معسكر إلى آخر، فإننا نبادر للدعوة إلى وقفة مراجعة ومصارحة، نجريها مع أنفسنا وفيما بيننا، في سياق حوار وطني مفتوح، تشرف الدولة على إطلاق ورعايته، وصولا لإعداد ملامح استراتيجية المرحلة المقبلة، بكل ما فيها من تهديدات وتداعيات"، هذا الكلام قيل قبل ثمانية أعوام، وأعيد طرحه بالأمس في أحد المجالس الخاصة، ونعيد نشره اليوم على الملأ، وأخشى من دون جدوى.
يومها كانت الشكوى مريرة من المجلس النيابي، المفترض به أن يكون "ساحة الحوار ووعاءه ورافعته" واليوم ما تزال الشكوى على حالها، إن لم تكن قد بلغت ذروة جديدة... ولكل الأسباب المعروفة والصحيحة أمس واليوم، لا يمكن للحوار "أن يقفز عن مجلس النواب ويتخطاه، ولكنه لا يمكن أن يقتصر عليه، أو يناط به وحده، لذلك سيبقى الرهان معقوداً على مؤسسات الدولة السيادية، لإطلاق مثل هذا الحوار ورعايته".
قبل ثمانية أعوام دعونا لسياسة خارجية أكثر توازناً واتزاناً، وأقل تماهياً مع معسكر "الاعتدال العربي" وأكثر انفتاحاً على مختلف القوى الإقليمية، على أن تشتمل المراجعة على السياسات الاقتصادية والاجتماعية المحلية، وتفعيل أجندة الإصلاح السياسي والتحول الديمقراطي" واليوم لا نجد ما نضيفه إلى تلك الدعوة، وإن كنا نرى كثيرين قد انضموا إليها، وأخذوا يدفعون باتجاهها في مجالسهم ومنتدياتهم.
مناسبة المقالة تلك، قبل ثمانية أعوام، أن الملك عبد الله الثاني، كان حذر من كارثة تطل برأسها في حال فشل عملية السلام، وهي كارثة لن تطال الفلسطينيين وحدهم، بل ستهدد الجوار القريب والبعيد لفلسطين ... ومناسبة إعادة التذكير بتلك المقالة، وعرض أبرز مضامينها، أن جلالته ما زال يحذر من الكارثة ذاتها، سيما بعد القرار الأرعن الذي صدر عن دونالد ترامب بشأن القدس والسفارة والأونروا ... وقد تمضي ثمانية سنوات أخرى ونحن نحذر، فيما فصول الكارثة المحدقة بنا، تتوالى فصولاً، وتنتقل من علياء الأفكار السوداء المجردة إلى الوقائع الاستعمارية الصلبة على الأرض.
والحقيقة أنني أردت العودة لمقالة قديمة عمرها ثمانية أعوام، ليس من باب استعراض قدرات الكاتب على الاستشراف، ولا في معرض المقاربة الاستفزازية المعروفة: "ألم نقل لكم؟" ... ولكن للكشف عن ضعف استجابة مؤسساتنا للتحديات المحيطة بنا، والدعوة لسلوك طريق آخر، إذ ليس من الحكمة أن تسلك الطريق ذاته باستمرار، وتتوقع ان تصل إلى نتائج مغايرة ونهايات وخواتيم مختلفة.
قد يقول قائل: وما الذي بمقدور الأردن أن يفعله، وليست لديه سوى أوراق محدودة التأثير ومتواضعة الأثر ... والحقيقة أن ليس لدى الأردن خيارات سهلة، جميع خياراتنا المستقبلية صعبة، بل وصعبة للغاية، ولكن مرور الزمن دون العمل على تعزيز عوامل القوة والاقتدار وبناء دعائم "الاعتماد على الذات"، من شأنه أن يجعل خياراتنا مستحيلة، وليست صعبة للغاية فقط ... هي دعوة إذن، لأن نشرع في بناء خياراتنا الوطنية، وأن نشرع بها الآن واليوم، وليس غداً أو بعد غدٍ ... فالوقت كالسيف، إن لم نقطعه بكل الكفاءة والاقتدار، سيقطعناً، ويقطع الطريق على آمالنا وأحلامنا.