بقلم : عريب الرنتاوي
وفقاً لنظرية «نصفي الكأس»، الفارغ والمليء، ينقسم المحللون والمراقبون إلى قسمين، بعضهم يُدرج قرار الرئيس دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها، في باب «رب ضارة نافعة»، وبعضهم الآخر لا يرى فيه سوى «ضارة- ضارة»... بين المقاربتين اتفاق على الضرر الذي ألحق بالشعب الفلسطيني، لكن اختلافهما ينبع من تباين التقدير حول حصيلة ردود الأفعال التي استثارها القرار والعواقب التي استدعاها.
القرار سيئ جداً للفلسطينيين والعرب والمسلمين والمسيحيين على حد سواء، وقد كتبت في ذلك عشرات المقالات والتحليلات التي ذهبت في كل اتجاه... بيد أن القرار استثار غضب العالم ورفضه وإدانته والتنديد به، واستنهض حراكاً شعبياً فلسطينياً كدنا نظن أنه بات صفحة من الماضي... والقرار جدّد ارتباط القضية الفلسطينية بعمقها الشعبي، العربي والإسلامي والأممي، بعد أن جهد كثيرون في محاولة إقناعنا بأن فلسطين والقدس والأقصى، فقدت قدرتها على تحريك الشوارع العربية، وأن صراع الفلسطينيين ضد الاحتلال، لم يعد سوى مجرد تفصيل ثانوي على خريطة المنطقة وصراعاتها الأكثر احتداماً... لكل هذه الأسباب، وأخرى غيرها، أدرج كثيرون قرار ترامب في باب «رب ضارة نافعة» ووصفه آخرون بـ «الضربة المرتدة» إلى غير ما هنالك من تعبيرات تصب في السياق ذاته.
لكن ماذا إن صدقت رهانات واشنطن وتل أبيب، وثبت أن هذا السيل الجارف من مظاهرات الاحتجاج والغضب، قد ذهب جفاءً؟ وماذا إن عادت شوارعنا إلى سكينتها ورتابتها، قبل أن تنجح في تحويل شحنة الغضب والرفض إلى خطط وقرارات وسياسات وإجراءات، تصدر عن حكوماتنا؟ ماذا إن «أشبعناهم شتماً وفازوا بالإبل كما في مرات عديدة سابقة»؟ عندها، وعندها فقط، سيكون من حق المتشائمين منّا تأكيد نظرية «ضارة – ضارة»، فالقرار الأميركي سيكون أسس لأوسع عمليات تهويد المدينة، وسيفتح الباب أمام المترددين لنقل سفارات بلدانهم، وسيجعل حياة المفاوض الفلسطيني صعبة للغاية في مواجهة الثقل الإسرائيلي معطوفاً على الثقل الأميركي الكامل هذه المرة.
ولأن درء المفاسد مقدم على جلب الفوائد أو المصالح، ولكي تصبح «الضارة» «نافعة» فعلاً لا قولاً فحسب، وجب على القادة العرب أن ينفروا خفافاً وثقالاً، فيعملوا مع قادة 55 دولة إسلامية، على خطة عمل تعاقب واشنطن وتحاصر إسرائيل... فهل أقل من سحب سفراء هذه الدول مجتمعة، لمدة ستة أشهر أو سنة من واشنطن على سبيل المثال؟ هل أقل من تجريم التطبيع مع إسرائيل ودعوة دولنا وحكوماتنا لـ «قوننته» و»دسترته»؟ هل أقل من تقديم العون والإسناد لفلسطين في موقفها الداعي لكسر الاحتكار الأميركي لعملية السلام؟ هل أقل من خطة عربية – إسلامية، لتعزيز صمود القدس وأهلها وحفظ إرثها وتاريخها وهويتها العربية والإسلامية، التي تتعرض لأبشع عمليات «الأسرلة» و»التهويد»؟
لا خلاف على حجم الضرر والضرار الذي ألحقه القرار الأميركي بنا، فلسطينيين وعرباً ومسلمين ومسيحيين، وإلا لما كان العالم قد وقف على ساق واحدة طوال أسبوع صاخب بردود الأفعال... ولن تجدي نفعاً محاولات واشنطن وتل أبيب التقليل من شأن القرار أو تصويره على أنه ليس أكثر من مجرد «تسمية الأسماء بأسمائها» أو «الاعتراف بالأمر الواقع»، ولسنا سعداء، بل كلنا حذر وإدانة للأصوات الداعية لـ»عدم تكبير» المسألة، واستئناف التخاذل والاستخذاء أمام واشنطن وربيبتها، وكأن شيئاً لم يكن... فجميع هذه المقاربات، ستجعل «الضارة» «أكثر ضرراً»، سيما وأننا نعرف تمام المعرفة، أن قرار ترامب بشأن القدس، سيسرع تمرير «قانون القومية» في الكنيست، وسيعزز المطالبة بفرض الاعتراف بإسرائيل «دولة يهودية خالصة»، وسيفتح باب التنازلات عن حق العودة والسيادة وخط الرابع من حزيران وغير ذلك مما جاء في متون القرارات الدولية ونصوص مرجعيات عملية السلام والاتفاقات المبرمة.
«لا نفع» في هذه «الضارة»، إن لم تكن سبباً في تعميق عزلة إسرائيل، ورفع كلفة احتلالها للأرض الفلسطينية ونزع الشرعية عنها... و»كل الضرر» في هذه «الضارة»، إن لم يخرج النظام العربي والإسلامي عن سباته وهوانه وتشققه وتآكله، ويتحرك ككتلة واحدة، تاركاً خلافاته التي لا تنتهي، ومتجهاً صوب الوحدة حول فلسطين وخلف شعبها ومن أجل الدفاع عن أقصاها ومقدساتها، مسيحية كانت أم إسلامية.
لا شيء يدعونا للابتهاج بـ «النافعة» التي يستجرها قرار ترامب «الضار»، ونحن أبناء تجربة طويلة وممتدة، من «الفزعات» العربية والفلسطينية، التي يتبدد تأثيرها، قبل أن تهدأ الحناجر ويجف حبر التصريحات والبيانات، ويسكن الثائرون إلى منازلهم ويومياتهم... لا شيء يملؤنا باليقين، بأننا سنسير في الاتجاه الصحيح، وأن الفرصة التاريخية السانحة لتحويل «الضارة» إلى «نافعة» لن تتبدد وسيجري اغتنامها.