ثانوية حسن البرقاوي قطيعة مع الشيوعيين وأول احتكاك بالسلطة
آخر تحديث GMT 12:38:00
 فلسطين اليوم -

ثانوية حسن البرقاوي قطيعة مع الشيوعيين وأول احتكاك بالسلطة

 فلسطين اليوم -

ثانوية حسن البرقاوي قطيعة مع الشيوعيين وأول احتكاك بالسلطة

بقلم :عريب الرنتاوي

شهدت ثانوية حسن البرقاوي، القابعة أسفل مسجد «أبو درويش» في الأشرفية، حوارات وسجالات فكرية وسياسية عميقة، وخلال سنوات مرحلة الدراسة الثلاث، كنا نفر من الطلبة التواقين للمعرفة، منخرطين في جدل مع الحزب الشيوعي الأردني بشقيّه، في غيبة من قوى اليسار الفلسطيني، التي اتخذت طريقاً مغايراً في الفكر والسياسة والممارسة، قادة فصائله وكوادرها غادروا إلى لبنان بعد الأحداث المؤسفة في أيلول/1970 وتموز / 1971، قبل أن يشتد عودنا، ومن بقي منهم الأردن، قضى معظم هذه الفترة في سجن الجفر الصحراوي.

لم تَرُقنا هذه التبعية الفكرية المطلقة للاتحاد السوفياتي، وكم من تلقينا فيها باستغراب شديد، عبارات «الرفيق فتحي الحلو» الممجدة لـ»وطن الاشتراكية الأول» و»حزب لينين الذي لا يخطئ»، وليت أن الأمر توقف عند هذا الحد، فقد امتدت نزعة إضفاء القداسة إلى الآباء المؤسسين للحزب الشيوعي الأردني،  لم نجادل كثيراً في الأمر، وآثرنا التنقيب عن مصادر أخرى للماركسية في «مكتبة لأمانة» على مقربة من المدرج الروماني في عمان، لم نبق فيها كتاباً واحداً، من كلاسيكيات الأدب الماركسي، إلا واستعرناه مراراً وتكراراً، توقفنا بعمق أمام كتابات تروتسكي النقدية لتجربة الستالينية في الاتحاد السوفيتي، واستهوتنا كتابات إلياس مرقص على نحو خاص، ومررنا بياسين الحافظ واسحق دويتشر وصادق جلال العظم، وغيرهم من الكتاب والمفكرين العرب والأجانب.

ستنتهي هذه المرحلة، بقناعة راسخة لدينا، بأن هذا التيار في الحركة الشيوعية العالمية واليسار العربي، لا يحمل طموحاتنا ولا تطلعاتنا ... أخذنا عليه استنكافه عن العمل المقاوم، والتحاقه الشكلي والمتأخر بصفوفها «قوات الأنصار»، وحملنا على موقفه من فلسطين ورؤيته لطبيعة الصراع فيها وحولها، والمستوحى كلية من الموقف السوفياتي، لم ترقنا مواقفه من المسألة القومية «والأمة في طور التكوين»، والأهم من كل هذا وذاك، لم نر في استتباعه لموسكو واستلابه المطلق أمام طروحاتها، ما يمكن أن يكون طريقاً لجيل جديد، بالكاد تعرف على موجة الشباب الثورية التي اجتاحت أوروبا في نهاية ستينيات القرن الفائت، فقررنا الافتراق عن الحزب بشقية، ووصفنا مواقف كل منهما «بالتحريفية السوفياتية»، المدموغة بخاتم دكتاتور الاتحاد السوفياتي الأبرز: جوزيف ستالين، الذي لم يتورع عن قتل معظم، إن لم نقل جميع رفاق لينين، ولاحق تروتسكي حتى المكسيك لقتله، وأنشأ نظرية سطحية – مدرسية في الماركسية، لا وظيفة لها سوى تأبيد حكمه وتسلطه.

وسيتخلل هذه الفترة من الدراسة الثانوية، سجالات مبكرة هي الأولى من نوعها، مع الإسلام السياسي، ممثلاً بحزب التحرير المحظور، إذ صادف أن مدير ثانويتنا في تلك الأزمنة، الأستاذ عبد الحي لافي، كان منهم أو متعاطفاً معهم، وكان يحرص على تنظيم الندوات والمحاضرات في المدرسة، لمفكرين أحسب أنهم من مدرسة الحزب، وكان عليه وضيوفه مواجهتنا في كل مرة، نحن المنافحون عن الديالكتيك المادي، والمسألة بالنسبة لنا أقرب لأن تكون «حياة أو موت».

كان يجبرنا على الذهاب إلى المسجد في الطابق العلوي، فوق مدرستنا مباشرة، وكنا نرد عليه بإشعال نقاشات مع إمام المسجد حول «أصل الأنواع» ونظريات النشوء والارتقاء، ودور «العمل في تحويل القرد إلى إنسان»، ونتف ومزق مما تيسر لنا معرفته عن نظريات الكون والخلق والفضاء وما يحيط بنا .

لم يُنظر لنا، ونحن من المتفوقين في المدرسة، على اننا نسعى في إضاعة وقت المدرسة والحصص الصفية، كنا نعامل بجدية من المدير وبعض المدرسين، خصوصاً أساتذة الدين، وكانوا يخشون من تأثيرنا على أعداد متزايدة من الطلبة، الذي وجودوا في اهتماماتنا «الغريبة» أمراً لافتاً وجاذباً، ويصلح أن يكون نواة لمشروع «تمرد» على العائلة والمدرسة،... كان عبد الحي لافي، يراقب بعناية «مجلات الحائط» التي نعنى بإصدارها باستمرار، وتزويقها بالصورة والألوان، تعرض تارة لتطور العمود الفقري للفقاريات، وكيف أنه يثبت صحة نظرية داروين، أو ننشر صوراً لتطور كف الإنسان عن حافر الحيوان وأقدام الطيور في دلالة لا تخطئها العين المجربة على ما اعتقدناه نظرية صائبة في نشأة الحياة والإنسان،... لم تكن مفردات «التكفير» في تلك الأزمنة انتشرت بعد، وحتى حين كان يقال لنا إن هذا خروج عن صحيح الدين، كان الأمر يأتي في سياق التوصيف، وليس الاتهام... لم نكن نخشى أو نتردد في البوح بكل ما يجول في خواطرنا من أفكار، بما فيها تلك الأكثر حساسية، وحتى بوجود رجل يُعتَقد أنه قيادي في حزب التحرير على رأس المدرسة، كان الزمن مختلفاً.

كنا شديدي الحماسة لكل كلمة نقرأها، ونسعى في تجريبها على أنفسنا قبل أي أحد آخر، إلى أن قرأنا ذات يوم، أن الطلبة ينتمون إلى البرجوازية الصغيرة، المتذبذبة بحكم طبيعتها المزدوجة بين العمل ورأس المال، فقررنا، نحن الذين لم يصل مصروفنا اليومي في أحسن حالاته إلى «شلن»، ونعيش في مخيمات الفقر واللجوء، قررنا أن «ننسلخ طبقياً»، وأن نغادر المدرسة إلى المصانع حيث «البروليتاريا الرثة»، لم يكن يكفي أن تكون بروليتارياً فقط، يجب أن تكون رثاً كذلك، تركنا المدرسة، ذهب جواد البشيتي إلى مصنع للملح يمتلكه والد رفيقنا وصديقنا في تلك الأزمنة، الدكتور سليمان الخياط حالياً، وذهبت أنا إلى مصنع للزجاج في ماركا ... «تنفّخ» جواد بعد أيام من غبار الملح المطحون والمعبأ بطرق بدائية، وتركتْ أفران صهر الزجاج وأدوات نفخه وتشكيله، حروقاً وندوباً لن يمحيها الزمن ... اقتنعنا بأن حكاية «الانسلاخ الطبقي» ليست هينة، وقررنا العودة للمدرسة بعد انقطاع لعدة أسابيع، من دون معرفة الأهل.

وسيكون لي لقاء مع الأستاذ عبد الحي لافي، ولكن بوجود «ولي أمر مزيف» هذه المرة، إذ رفض إعادتي للمدرسة وأنا في سنة التوجيهي، قبل إحضار والدي أو من هو في مقام «ولي الأمر» فاصطحبت شاباً من جيراننا يكبرني سناً بعشر سنوات بصفته «خالي» لكن خالي الزائف، سيرتبك في حفظ اسمي كاملاً، وسيخطئ في نطق اسم أمي، إلى أن عدت «صاغراً» إلى المنزل، لمواجهة نظرات أبي القاتلة، وصمته الذي ينزل كالسياط على ظهري، أما أمي، فلم تبق شتيمة أو تهمة بـ»الهمالة» إلا وألحقتها بي، والحقيقة أنني كنت أخشى نظرات أبي أكثر من لسان أمي، لتنتهي «المغامرة» بعودتنا سالمين إلى مواقع «البرجوازية الصغيرة المتذبذبة والانتهازية».

وإذ كان علينا أن نجمل خلافاتنا مع الحزب الشيوعي بشقيّه في تلك المرحلة، فقد تعين علينا أن نقضي أياما وليالي في مطالعة التجربة السوفياتي، ومن منظور نقادها وخصومها وضحاياها ... وستتضمن استقالتنا من الحزب، المكونة من عشرات الصفحات (40 او 60 صفحة لم أعد أذكر) لقد استمسكنا بوصية لينين التي طالب فيها بتنحية الجورجي جوزيف ستالين عن أمانة سر الحزب، لفظاظته القصوى، والتي بدا فيها ميّالاً لخلافة تروتسكي ... أنكر الشيوعيون شيئاً كهذا، إلى أن جاءت «روسيا اليوم» ببرامجها الأرشيفية والوثائقية لتفضح المستور ... ولم نأخذ بعبارة نيكيتا خورتشوف التي قال فيها «إن مآثر الرفيق ستالين تفوق أخطاءه»، بقينا على موقف إيديولوجي صلب ضد الستالينية وطبعتها العربية الأكثر سطحية وتهافتاً كما جسدتها وثائق وأدبيات الحركة الشيوعية العربية برمتها، لا الأردنية وحدها، قبل أن تحدث التحولات الكبرى في مواقف التيار الشيوعي العربي مع نهاية سبعينات القرن الفائت وبداية ثمانيناته، على يد الحزب الشيوعي اللبناني بقادته ومفكريه، من مهدي عامل وحسين مروة وجورج حاوي، وجميعهم سقطوا شهداء الاغتيال السياسي في لبنان.

وستكون ثانوية حسن البرقاوي، أول تجربة لنا للاحتكاك بالأجهزة الأمنية، بعد أن قررنا ذات يوم، أن نخرج في تظاهرة تضامناً مع «غضب الضفة»، يومها أدخلنا عصي اليافطات إلى المدرسة قبل يوم من ساعة الصفر، وفي يوم الخروج من أبواب المدرسة وأسوارها العالية، تدثرنا باليافطات الملفوفة حول أجسادنا، وتحت ملابسنا، لنقوم بتصنيع يافطاتنا وأعلامنا، قبل أن يخرج بضعة عشرات منا إلى الشارع، رغم محاولات مدير المدرسة والمدرسين منعنا من ذلك، إلى أن فرقتنا الأجهزة الأمنية قبل أن نصل إلى حي الأرمن وأول «نزلة المصدار»، يومها، وربما يومها فقط، فهمنا أن التغيير ليس نزهة قصيرة، وأن للفرد حدوداً ضيقة يمكن أن يتحرك من خلالها، وأن التنظيم والتنظيم وحده، يمكن أن يشكل بداية الطريق، وستكون هذه محور اهتمامنا وتركيزنا عند الانتقال للجامعة الأردنية في السنة التالية.

المصدر : جريدة الدستور

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ثانوية حسن البرقاوي قطيعة مع الشيوعيين وأول احتكاك بالسلطة ثانوية حسن البرقاوي قطيعة مع الشيوعيين وأول احتكاك بالسلطة



GMT 09:53 2021 الأحد ,03 كانون الثاني / يناير

سؤالنا وتجربتهم

GMT 09:19 2020 الخميس ,30 تموز / يوليو

تونس على صفيح الصراع الإقليمي الساخن

GMT 09:05 2020 الخميس ,23 تموز / يوليو

العراق بين زيارتين وثلاث قذائف

GMT 06:33 2020 السبت ,18 تموز / يوليو

هل بات «الضم» و«صفقة القرن» وراء ظهورنا؟

إطلالات هند صبري تلهم المرأة العصرية بأناقتها ورقيها

القاهرة ـ فلسطين اليوم
تعَد هند صبري واحدة من أبرز نجمات العالم العربي، التي طالما خطفت الأنظار ليس فقط بموهبتها السينمائية الاستثنائية؛ بل أيضاً بأسلوبها الفريد والمميز في عالم الموضة والأزياء. وفي يوم ميلادها، لا يمكننا إلا أن نحتفل بأناقتها وإطلالاتها التي طالما كانت مصدر إلهام للكثير من النساء؛ فهي تحرص على الظهور بإطلالات شرقية تعكس طابعها وتراثها، وفي نفس الوقت، تواكب صيحات الموضة بما يتناسب مع ذوقها الخاص ويعكس شخصيتها. إطلالة هند صبري في مهرجان الجونة 2024 نبدأ إطلالات هند صبري مع هذا الفستان الأنيق الذي اختارته لحضور مهرجان الجونة 2024، والذي تميّز بأناقة وأنوثة بفضل قَصته المستوحاة من حورية البحر، مع زخارف تزيّنه وتذكّرنا بقشور السمك. وهو من توقيع المصممة سهى مراد، وقد زاد سحراً مع الوشاح الطويل باللون الرمادي اللامع وبقماش الساتان، ال...المزيد

GMT 17:36 2020 الثلاثاء ,27 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج الجوزاء الإثنين 26 تشرين الثاني / أكتوبر 2020

GMT 10:19 2019 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

الأحداث المشجعة تدفعك إلى الأمام وتنسيك الماضي

GMT 16:13 2014 الأربعاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

الدكتورة أميرة الهندي تؤكد استحواذ إسرائيل على ثلث المرضى

GMT 22:32 2016 الثلاثاء ,08 تشرين الثاني / نوفمبر

عروض فنية للأطفال في افتتاح مسرح "متروبول"

GMT 06:02 2019 الخميس ,25 إبريل / نيسان

تألق سويفت ولارسون وكلارك وصلاح في حفل "تايم"

GMT 14:01 2020 الخميس ,06 شباط / فبراير

تجاربك السابقة في مجال العمل لم تكن جيّدة

GMT 09:04 2019 الثلاثاء ,01 كانون الثاني / يناير

سكارليت جوهانسون تُوضِّح أنّ وقف تقنية "deepfake" قضية خاسرة

GMT 06:31 2018 الإثنين ,17 كانون الأول / ديسمبر

خبراء يكشفون عن أسوأ 25 كلمة مرور تم استعمالها خلال عام 2018

GMT 15:38 2018 الجمعة ,07 كانون الأول / ديسمبر

أحمد أحمد يتوجّه إلى فرنسا في زيارة تستغرق 3 أيام

GMT 09:02 2018 الجمعة ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

"إسبانيا" الوجهة المثالية لقضاء شهر عسل مميز

GMT 04:53 2015 الأحد ,15 آذار/ مارس

القلادة الكبيرة حلم كل امرأة في موضة 2015
 
palestinetoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

palestinetoday palestinetoday palestinetoday palestinetoday