بقلم :عريب الرنتاوي
وفرت الأزمة الخليجية الراهنة فرصة نادرة للباحثين والمهتمين للتعرف على تكوينات الحكم واتجاهاته وآليات انتقاله في عدد من الدول المنخرطة بحماس في هذه الأزمة، مثلما وفرت أرشيفاً هاماً من المواقف التي ظلت حبيسة الأدراج و"الخزائن المقفلة" لسنوات طوال، وطاولت معظم أزمات المنطقة وأكثرها حساسية، وبصورة بتنا معها أكثر دراية بحقائق المواقف والسياسات التي تنتهجها دول عدة، بعيداً عن المزايدات والمناقصات الإعلامية والخطب الحماسية في أروقة القمة واجتماعات وزراء الخارجية العرب.
في الحرب الإعلامية المحتدمة اليوم بين مراكز وأطراف عربية وازنة، لعبت أدواراً متفاوتة في تشكيل وصياغة أزمات المنطقة، لا خطوط حمراء، وكل الأسلحة "بيضاء" و"مشروعة"، ولقد وجدنا من يتطوع – مشكوراً - للتنقيب في أراشيف "ويكيليكس"، لاستخراج ما احتوت عليه من بيانات (طلقات) يمكن تذخير حملات التراشق الإعلامي بها، ما أعفانا وغيرنا من تكبد مشقة البحث المضني في عشرات ألوف الوثائق والبرقيات... إنه موسم "نشر الغسيل" على الحبال "المنصوبة" فوق أسطح المنازل العربية.
رأينا على سبيل المثال، وبالوثائق الدامغة، كيف تتنافس هذه الدول في "خطب ود السيد الأمريكي"، وتعرفنا على نظام "الأتاوات" التي تتبعه واشنطن في تعاملاتها مع الدول العربية الثرية، والأهم تابعنا كيف تسعى كل دولة لتخريب علاقات شقيقاتها الأخريات بالقوة الأعظم، والبرهنة لموفدي واشنطن ورسلها وسفرائها، أنها هي وحدها، دون سواها، الأجدر بالاعتماد كحليف موثوق، أولى بالرعاية.
ورأينا في السياق ذاته، ومن خلال إقدام كل فريق اتهام الفريق بالاستجداء والتخاذل أمام إسرائيل، كيف نجحت تل أبيب في تسجيل اختراقات كبرى في مواقف وسياسات بعض هذه الدول، وكيف سعت أنظمة وقيادات - الشابة منها بالأخص - لتقديم أوراق اعتمادها لواشنطن، عبر البوابة الإسرائيلية، فإذا كانت معدة الرجل هي طريق المرأة الأقصر للوصول إلى عقله، كما يقول المثل الشعبي الهابط، فإن الطريق الأقصر لواشنطن، يمر بالضرورة بقاعات الترانزيت بمطار بن غوريون، وتتطلب أحياناً الخروج من هذه القاعة لقضاء ردح من الوقت في الفضاء الإسرائيلي.
والأخطر أننا بتنا نعرف، بالملموس، وليس بالتقدير والتحليل، كيف تندمج مسألة تطوير العلاقة مع إسرائيل واسترضائها بآليات انتقال الحكم في عدد من الدول من العربية، ولماذا يتطلع المتهافتون على الحكم، لتقديم الأفكار والمبادرات - المتهافتة بالطبع - لحل القضية الفلسطينية والتدخل في شؤون الشعب الفلسطيني الداخلية، ودائماً في سياق السعي للاستظلال بـ "الشرعية الأمريكية" التي استدل كثيرون، بمن فيهم حكام جمهوريون وإسلامويون، بأن طريقها الأقصر يمر بإسرائيل.
ونعرف الآن الكثير من خبايا المواقف "المكارثية" حيال حركات المعارضة والربيع العربي و"الانتخابات" و"الانتقال الديمقراطي"، بما فيها المساعي المحمومة لشيطنة الإخوان المسلمين، أو أي حركة أخرى لها امتداد جماهيري، وكيف يتطوع البعض من قادة العرب، لمطاردة الحركات الشعبية وقيادة "الثورات المضادة" في العالم العربي... والمسألة باختصار، وكما تقرأ من على أسطح المنازل المغطاة بحبال الغسيل، مسألة الوصول إلى السلطة والبقاء فيها ... المعضلة تكمن في الثالوث غير المقدس، الذي حكم أداء الحكم العربي في السنوات الأربعين الفائتة: التمديد والتجديد والتوريث.
أما المواقف من قضايا التطرف والإرهاب، فقد حظيت بالمساحة الأكبر من الغسيل المنشور تحت أشعة صيفنا القائظ ... لا أحد بريء من دماء الضحايا، الكل متورط في هذا الوقت أو ذاك، في هذه المنطقة أو تلك ... من لم يدعم جماعات الإخوان، دعم السلفيين، ومن قصر في دعم داعش فقد دعم النصرة، ومن "لاذ بحبال الاعتدال" دعم أحرار الشام وجيش الإسلام وفيلق الرحمن وغيرها من الكتائب الجهادية التي لا يفصلها عن داعش والنصرة، سوى مسافة خطوات فقط.
وعلى هامش هذا المسلسل وفي كواليسه، بتنا على بينة من النتائج الكارثية لسياسة "شراء الصوت والصمت" المعتمدة من قبل كثير من الأطراف، والتي تخطت النخب المحلية، من سياسية وإعلامية وثقافية وفكرية، إلى النخب العربية، وطاولت مراكز بحث ومؤسسات إعلام وشخصيات وازنة في الغرب كذلك ... بتنا أكثر معرفة بالأدوار التي يقوم بها "المؤلفة جيوبهم" من إعلاميين وسياسيين وأمنيين ومفكرين عرب ورجال دين، خدمة للتطلعات والأطماع التي لا حدود لها، لسادة المال والسلطان، وبعضهم ارتضى لنفسه أن يكون موظفاً أو حتى "زاماراً" للحي الذي يقيم فيه، بعد أن لفظتهم أحياؤهم الأولى، أو بالأحرى بعد أن ضاقت بجشعهم وطموحاتهم الشخصية الصغيرة.