من حق الفلسطينيين أن يحتفلوا بانتصار قضيتهم في الأمم المتحدة، فالعالم يظهر للمرة «الألف»، أنه ما زال يقف موحداً مع عدالة هذه القضية وشرعيتها، رغم سياسات الضغط والابتزاز التي مورست على دوله «المستضعفة»، والتي انخرط بها، كما لم يحدث من قبل، الرئيس الأميركي شخصياً وعدد من طاقم إدارته، في مقدمهم سفيرته في نيويورك نيكي هالي.
أساليب الضغط والترهيب والإكراه لم تكن مألوفة أبداً، فالبيت الأبيض وضع المنظمة الدولية ذاتها في خانة الاستهداف بالعقوبات المالية، وإدارة ترامب لم تبق جهداً إلا وبذلته لابتزاز الدول الأعضاء بالمساعدات التي تقدم لها، وبصورة فجّة، أسقطت كافة المبررات التي طالما ساقتها واشنطن لتبرير وتفسير دعمها لهذه الدول، ليبلغ «العري» أوجه عندما انكشف الستار عن هدف هذه المساعدات، وهو «استتباع» هذه الدول وتحويلها إلى مجموعة من «العازفين» الرديئين في الأوركسترا الأميركية.
الحق انتصر على القوة، والعدالة انتصرت على الغطرسة، إذ حتى الدول شديدة الاعتماد والحاجة لهذه المساعدات، غلبت منطق الحق والعدالة على بلطجة القوة وغطرستها ... دول مثل الأردن ومصر، ما كان لها إلا أن تفعل ما فعلت، ولم يكن يساور الشك أحداً، بأنها ستسلك طريقاً آخر على أي حال.
والسلطة الفلسطينية، بإصرارها على الذهاب حتى نهاية الشوط، أظهرت من جديد، أن في «ضعفها تكمن عناصر قوة جبارة، وأنها تستطيع أن تقف في وجه الغطرسة مهما بلغت الصعوبات والتحديات، وأن مصدر هذه القوة، ينبع من الحق والعدالة والشرعية، وليس من مكامن القوة التقليدية التي نعرفها ويدرسها طلبة العلوم السياسية في سنتهم الأولى.
صحيح أن الجهد الأميركي – الإسرائيلي المكثف أسفر عن زيادة عدد الدول «الممتنعة» عن التصويت قياساً بما كان يحدث في ظروف أخرى ... لكن التدقيق جيداً في قوائم المؤيدين والمعارضين والممتنعين، يظهر جانباً إيجابياً آخر، ويتمثل في انتقال دول مثل كندا استراليا والتشيك وغيرها، من خانة التأييد الأعمى للولايات المتحدة، إلى خانة الامتناع عن التصويت، وهذا تطور يمكن البناء عليه مستقبلاً، وتتعين متابعته وتعميقه.
هنيئاً للسيدين ترامب ونتنياهو بدعم الهندوراس وغواتيمالا وماكرونيزيا لمواقفهما، ومع أننا نأسف لخروج دولتين لاتينيتين عن السرب القارّي، إلا أن «الأيام دول» في تلكم القارة، واليمين المتطرف لن يبقى في السلطة إلى الأبد فيها، فالقارة اللاتينية لا تعرف الركود والثبات، وهي أظهرت وتظهر باستمرار، دعمها وإسنادها لقضية شعب فلسطين وحقوقه الوطنية المشروعة.
ويكفي أن كافة الدول المقررة والمؤثرة في هذا العالم، قد وقفت إلى جانب فلسطين مرتين خلال أسبوع واحد، الأولى بالتصويت الإجماعي في مجلس الأمن الدولي والذي لم تخرقه سوى السيدة نيكي هالي التي تنافس نفتالي بينيت على حب إسرائيل ودعم سياساتها الاستيطانية التوسعية، والثانية في الجمعية العامة للأمم المتحدة، عندما جددت هذه الدول مرة أخرى، إسنادها للحق الفلسطيني.
ما حصل في المنتظم الدولي خلال الأسبوع الماضي، هو تصويت عالمي على عدالة القضية الفلسطينية ومشروعية الحق الفلسطيني، وكانت نتيجته احتلال فلسطين لأكبر مساحة من التأييد العالمي، مقابل إحكام أطواق العزلة والحصار على الاحتلال والاستيطان الإسرائيليين، والرعاية الأميركية التامة، لطموحات أقصى اليمين الديني والقومي في إسرائيل.
وإن كنا لا تساورنا الشكوك ولا تستوطننا الأوهام حول فرص تحويل القرار الدولي إلى خطة عمل لإنهاء الاحتلال، وترجمة ركام القرارات الدولية السابقة، إلى خرائط طرق تنتهي بتمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حقوقه الوطنية المشروعة، إلا أننا لا نستطيع إلا أن نحتفي بالصفعة التي أطاحت بغطرسة القوة وصلفها، سواء صدرت عن واشنطن أو تل أبيب.
ولا شك بأن القرار الدولي الجديد، يرتب على الفلسطينيين، ومن تبقى من العرب، تكثيف الجهود وحثها لإدامة هذا الدعم والبناء عليه، من خلال تشديد حملات المقاطعة وفضح السياسات الإسرائيلية ومطاردة القائمين عليها في كل محفل دولي، سياسي وحقوقي، توطئة لنزع الشرعية عن الاحتلال والاستيطان، الذي يشكل كابوساً يؤرق مضاجع حكومة اليمين واليمين المتطرف في إسرائيل.
ولن ننتظر طويلاً حتى نرى، أن التهديدات التي «أرغى بها البيت الأبيض وأزبد»، لن تجد طريقها إلى حيز التنفيذ، فواشنطن لن تستطيع أن تفرض عقوبات جماعية على العالم بأسره، وحتى على الدول التي تبدو بأمس الحاجة لها، مثل الأردن والسلطة ومصر، وهي إن فعلت تكون قد حررت هذه الدول من الكثير من الاعتبارات والحسابات التي تكبل سلوكها وتحد من هوامش حركتها، برغم المعاناة المؤقتة التي قد تتسبب بها إجراءات عقابية من هذا النوع.
ولا أدري حقاً، إن كان في واشنطن «عاقل» واحد، فكر ولو للحظة واحدة، بأن التلويح بوقف المساعدات سيثني دولاً مثل مصر والأردن عن دعم القرار وحشد التأييد له، إن كان هناك حقاً من يفكر بهذه الطريقة في البيت الأبيض، فتلك مصيبة، لاسيما بوجود كل تلك الجيوش من الخبراء و»المخضرمين» ومراكز البحث والتفكير، وإن كان الأمر لا يتعدى «التهويل» و»التخويف» فالمصيبة أعظم، لاسيما على هيبة واشنطن وصورتها كدولة قائدة في العالم.
لا أدري حقاً، إن كان في واشنطن «جريء» واحد، يستطيع أن يتقدم لترامب بكشف عن الدول والمنظمات والجهات والأفراد الذين دعموا قراره بشأنه، وهو كشف سيكون قصيراً للغاية على أي حال، إذ حتى أقرب حلفاء واشنطن وأخلص أتباعها والمستتبعين لسياساتها، لم يجرؤ على الجهر بتأييد القرار، فأين الحكمة في تحدي إرادة العالم ومشاعر ملايين الناس لكسب ود حفنة من العتاة والغلاة في دولة الاحتلال والاستيطان والتمييز العنصري؟