بقلم :عريب الرنتاوي
لم يكن إخراج منطقة "تخفيف التصعيد" الجنوبية من مسار أستانا، أمراً مفاجئاً، وهو بكل تأكيد لم يقع من قبيل الصدفة ... فالدول المتأثرة والفاعلة في هذه المنطقة، الأردن وإسرائيل تحديداً، ليس لها مصلحة في قيام إيران ولا حتى تركيا، بدور الضامن والراعي لهذه في المنطقة ... وكلتا الدولتين سبق وأن أعلنتا بشكل منفصل، أنهما لا ترحبان بوجود إيراني رسمي أو ميليشيوي على مقربة من حدودها من حدودهما الشمالية.
والاتفاق الذي أعلن عنه من هامبورغ، حيث تدور أعمال قمة العشرين، وبعيد انتهاء الاجتماع الأولى للرئيس الأمريكي والروسي على هامش القمة، لم يكن وليد لحظته، فقد سبقته مفاوضات سرية وعلنية، في عمان بين الأطراف الدولية الثلاث التي أعلنت الاتفاق ومهرته بتواقيعها، أو في محيط درعا (بلدة أزرع) السورية بين النظام والمعارضة، أو في الاتصالات والزيارات المتبادلة التي شملت عواصم دول عدة من بينها الأردن وإسرائيل وروسيا والولايات المتحدة.
لا نعرف الكثير حتى الآن عن تفاصيل الاتفاق، لكننا نعرف أن تنفيذه بدأ قبل التوقيع عليه بأسبوع، عندما أعلنت دمشق من جانب واحد، وقفاً لإطلاق النار في المنطقة الجنوبية لمدة خمسة أيام، عادت ومددته لمدة يومين آخرين، تنتهي مع بدء سريان الاتفاق الثلاثي فجر اليوم الأحد ... ونعرف أن البحث بين النظام والمعارضة، دار حول عناوين أكبر من مجرد وقف إطلاق النار، منها: (1) الاتفاق على قائمة المنظمات الإرهابية العاملة في الجنوب السوري والفصائل المتعاونة منها، توطئة لاستهدافها من قبل الجانبين، النظام والمعارضة ... (2) تحييد درعا ومحطيها وتثبيت وقف إطلاق النار فيها، وإعادتها للحياة الطبيعية، توطئة لاستقبال أعداد من النازحين داخل سوريا واللاجئين في الأردن، وربما من لبنان .... (3) استلام النظام لمعبر نصيب ورفع العلم السوري عليه، ونشر قوة أمنية ومدنية لتشغيل المعبر توطئة لفتحه أمام حركة البضائع والأفراد المتبادلة بين البلدين ... (4) ترتيبات خاصة بإيصال المساعدات واستئناف الحياة المدنية واسترجاع الدورة الاقتصادية في هذه المناطق ... (5) إتمام بعض المصالحات المحلية، التي قد تكون غير مسبوقة من حيث حجم ومساحة وتعداد السكان في المناطق المشمولة بها.
هذا على الأقل، ما تم تسريبه منذ بدء المحادثات في "أزرع"، ولا ندري ما الذي تضمنه الاتفاق الثلاثي الجديد من هذه النقاط وما الذي أسقطه منها، لكننا نعرف أنه لا يتعلق فقط بوقف إطلاق النار، وإن وقف إطلاق النار لن يحترم على المدى الأبعد، إن لم يقترن بإجراءات تكميلية، بل ونحن على ثقة من أن وقف إطلاق النار ليس كافياً لجذب اهتمام دول جوار سوريا، التي تتطلع لتحقيق أهداف ومصالح أخرى، أعمق وأبعد من مجرد صمت المدافع في الجنوب.
إسرائيل، كانت شديدة الوضوح طوال الفترة الماضية، فهي لا تريد إيران وحلفائها على مقربة من حدودها مع سوريا، وهي تفضل عليهم النصرة و"داعش"... إسرائيل لا تريد الانخراط المباشر في أية ترتيبات ميدانية في مناطق تخفيف التصعيد، وهي الخارجة للتو من تجربة مريرة مع منطقة آمنة مجاورة في جنوب لبنان، لم تجلب لها الأمن، بل جلبت العار لجيشها الذي لا يقهر الذي انسحب متقهقراً تحت نيران المقاومة في الخامس والعشرين من أيار عام 2000...أضف إلى ذلك، أن إسرائيل لا ترغب في انتشار قوات تركية أو حتى مراقبين أتراك، فهي لا تثق بتركيا وأدروغان وحزب العدالة والتنمية، وهي تفضل الانتشار الأمريكي المتواطئ مع مصالحها وسردياتها بدلاً عن الانتشار الروسي الذي وإن كانت لا تحبذه إلا أنها لا ترفضه، بالنظر للعلاقات الناشئة مع الكرملين و"القيصر" والتي تتخذ منحى متصاعداً منذ عدة سنوات.
الأردن، عرّف مصالحه في جنوب سوريا، بإبعاد المنظمات الإرهابية أولاً ومنع ميليشيات إيران وحرسها الثوري من الاقتراب من الحدود ثانياً، وتأمين حدوده الشمالية من أية تهديدات ثالثاً، وفتح المعبر واستئناف التبادل التجاري وحركة الأفراد مع سوريا، رابعاً، على أن يجري كل ذلك بتفاهم مشترك وعميق مع الحليف الأمريكي والصديق الروسي الذي طوّر بدوره علاقة مع عمان، تتخذ منحى متصاعداً بدورها.
دمشق، تراقب المشهد عن كثب، وتحسب لكل خطوة تتخذها أو توافق عليها في هذا المجال، ألف حساب ... التهدئة جنوباً ضرورية لها إن هي أرادت تفادي احتمالات المواجهة المتكررة مع إسرائيل، وجبهة الجنوب ليست لقمة صائغة بدلالة مراوحة القوات الحكومية في حي المنشية وبلدة درعا ومحيطها وعدم نجاحها في تحقيق اختراق نوعي رغم المحاولات المتكررة ... وهي لها مصلحة أيضاً في فتح الحدود مع الأردن، فذلك إن حصل، سيعد تطوراً سياسياً بالغ الأهمية، وليس مجرد تطور ميداني واقتصادي فحسب ... وهي تأمل أن تفضي التهدئة إلى إحراز تقدم على طريق المصالحات المحلية، يخرج مساحات واسعة من سوريا من دائرة النار، ويعيد جزءا مهماً من سوريا إلى حاضنة الدولة.
حيال تفاهمات إقليمية بهذا الحجم والاتساع، ليس للفصائل المسلحة الخمسين المنتشرة في جنوب سوريا، أي قول من أي نوع، ليس لها سوى ضبط سلوكها تحت هذا السقف، وليس لرعاتها ومموليها أن يشقوا عصا الطاعة على واشنطن، أحد أطراف الاتفاق، وهم الذي يتسابقون لكسب ودها ورضاها في صراعاتهم الداخلية على السلطة من جهة، وفي حروب الأخوة والأشقاء من جهة ثانية، وفي مواجهة إيران وهلالها وحزامها من جهة ثالثة.
الاتفاق الثلاثي حول الجنوب السوري، إن قُدّرَ له أن يرى النور، سيكون تطوراً نوعياً في الأزمة السورية، وسيعد أول ثمرة واختبار للتعاون الروسي الأمريكي، وسيؤسس لانفراجة حقيقة لمساري أستانا وجنيف ... ألم نقل أن لقاء هامبورغ بين بوتين وترامب، هو الذي سيضبط إيقاع المسارين معاً؟