من منزل في «بربور» إلى مكتب في «البربير»
آخر تحديث GMT 11:50:11
 فلسطين اليوم -

من منزل في «بربور» إلى مكتب في «البربير»

 فلسطين اليوم -

من منزل في «بربور» إلى مكتب في «البربير»

بقلم :عريب الرنتاوي

في الزاوية المقابلة لجامعة بيروت العربية، تعرفت إلى «مقهى أم نبيل»، كان مقهى متواضعاً تديره سيدة أربيعية، أسمينا المكان على كنيتها، كانت تعد أفضل قهوة صباحية، وبنكهة منزلية كنا قد بدأنا نفتقدها ونحن إليها، رغم أنني شخصياً لم أكن قد قضيت بضعة أشهر في بيروت ... كان داود الزاوي، الذي سيشتهر لاحقاً، كشاعر وكاتب ومثقف فلسطيني باسم زكريا محمد، يتردد عليها باستمرار كذلك، وكنا نقضي أوقاتاً طويلة في نقاشات وسجالات لا تتوقف ولا تنحصر بموضوع.

ذات صباح، وبينما كنت جالساً على طاولة على رصيف المقهى، أقلب السفير والنهار (أحسب أنني تعلمت المواظبة على قراءة الصحف في ذلك المكان)، فإذا بشاب نحيف، داكن البشرة، شعره مسترسل، وشاربه يلامس أسفل شفته السفلى، يمر مسرعاً، حاملاً على كتفه «حقيبة يد» من النوع الدارج في تلك الأيام ... إنه يحيى النعيمات، لم أصدق عينيّ، فأنا بالأصل لم أكن أعرف أنه في لبنان، فقد غادرنا قبل عدة أشهر، ومن دون استئذان أو إشعار... ناديته وانعقد لسانه بدوره من شدة المفاجأة ... سألته عن أحواله، فأجابني أنه قضى ليلته في الاتحاد العام لطلبة الأردن، عند محجوب الروسان، وأنه يقضي جل وقته في قواعد المقاومة في جنوب لبنان ... كانت فترة صعبة في حياته، لم يكن قد تمكن بعد، من الاندماج في البيئة اللبنانية الصعبة، لم يحصل على عمل، ولم يحظ بفرصة للبوح عن ملكاته وقدراته كصحفي محترف وشاعر مرموق.

بخلاف يحيى، الذي سيُعرف لاحقاً باسم أمجد ناصر، كنت قد حظيت فور وصولي، وبسبب علاقات سابقة كنت نسجتها مع بعض الشخصيات النافذة في الفصائل الفلسطينية، بشقة مفروشة من غرفتين وصالة ومطبخ وحديقة صغيرة في منطقة «بربور»، مقابل مسجد جمال عبد الناصر على كورنيش المزرعة، كنّا نتندر على اسم المنطقة، كأن يقول أحدنا للآخر «زحلق إلى البيت»، وكنت أقيم فيها لوحدي، عرضت عليه مشاطرتي السكن، فاستجاب دون تفكير أو تردد ... وستصبح هذه الشقة، وصاحبتها السيدة البيروتية الفضولية «أم العبد»، ملاذاً لعدد كبير من المناضلين الذين سيغادرون الأردن تباعاً، ومن بينهم، اثنان من أبناء عمومة يحيى هما: سميّه يحيى النعيمات «جونيور» والمرحوم هاني النميري، فضلاً عن زهرة المعاني وابنتيها، نيفرتيتي ومنى.

ما أن استتبت لنا الإقامة في «منزل بربور»، حتى اندلعت معارك طاحنة بين وحدات الجيش السوري المنضوية في إطار قوات الردع العربية، أو بالأحرى، المحتوية على قوات الردع العربية، وستتاح لنا الفرصة لمعايشة فصلٍ دامٍ من فصول الحرب الأهلية اللبنانية لم يبق سلاح ثقيل أو متوسط أو خفيف لم يستخدم، وكانت «ثكنة الفياضية» حيث تتمركز قوة مهمة من الجيش اللبناني الموالي للجانب المسيحي في الانقسام الأهلي، عنواناً رئيساً للأخبار والتقارير الصحفية لعدة أيام متواصلة.

كان الرئيس المصري الأسبق أنور السادات، قد زار إسرائيل، لتنقسم المنطقة من بعد تلك الزيارة إلى محاور متصارعة كعادتها، وتتشكل «جبهة الصمود والتصدي العربية» التي ضمت إلى جانب سوريا والعراق، كلا من ليبيا ومنظمة التحرير الفلسطينية، ولتحظى بتأييد من الجزائر واليمن الجنوبي آنذاك ... يومها، طويت صفحة الصراع الفلسطيني – السوري، التي فُتحت إثر التدخل العسكري السوري في لبنان، ضد المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، ودعماً للجبهة اللبنانية، أو ما كان يعرف باسم «الانعزالية المارونية»... بدأ المسيحيون في لبنان يتحسبون من انقلاب المشهد وتغيير المعادلات، وبدأوا يعبرون عن ضيقهم بالوجود العسكري السوري في مناطقهم، ومنذ ذلك التاريخ، وهم في صراع لإخراج السوريين من «المنطقة الشرقية» وجوارها، إلى أن تحقق لهم ما أرادوا، بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982.

وستندلع أول حرب إسرائيلية – فلسطينية بعد أشهر معدودات من وصول المجموعة الأردنية إلى بيروت، وستأخذنا «الحمية» للالتحاق بفصائل المتطوعين لقتال إسرائيل، ولأنني ذي وضعية سياسية متقدمة، فلم يكن يليق بي أن أكون مجرد متطوع، فتوليت قيادة فصيل عسكري في زمن اجتياح آذار 1978، مع أنني لم أكن قد أطلقت رصاصة من مسدس.

ولكي لا تأخذني المفاجأة، لجأت إلى مكان قصي في استاد رياضي قيد الانشاء، وأخذت أطلق النار لكي تعتاد أذني على صوت الرصاص ... لكن قائداً عسكرياً فلسطينياً، اكتشف أمري، عندما أوقف حاجزا للكفاح المسلح، الفصيل الذي أقوده، وبعد أن عرف المهمة التي أتولاها، سألني مستنكراً، وكيف تخرج بفصيل سيرابط على البحر قبالة الزوارق الإسرائيلية، وليس من بين أفراده من يرمي على «الآر بي جيه»، وليس لديكم رشاش ثقيل أو متوسط ... خجلت من «ديمقراطيتي» و»انعدام خبرتي» وعدت أدراجي، طالباً تعزيز الفصيل برماة «آر بي جيه» و»دوشكا»، ولا أدري إن كان من حسن طالعي أم من سوئه، أننا لم نشتبك مع أي إسرائيلي في تلك الحرب.

وسوف نختبر في لبنان، قصة ارتقاء أول شهيد من معارفنا المقربين جداً في حرب الاجتياح ... إنه الشهيد جهاد حمو، العضو القيادي في جبهة التحرير الفلسطينية، الذي استشهد برصاص «حاجز إسرائيلي طيار» وهو في طريق العودة من الجنوب إلى بيروت، لم أعرف جهاد في مخيم الوحدات رغم أن منزل والديه لا يبعد سوى ثلاثمائة متر عن منزلنا، عرفت أخاه عارف حمو، ربما لأنه كان يكبرني سنّاً ... كان صديقاً مقرباً من زهرة المعاني، ولطالما زارنا في «منزل بربور»، ولقد عرفني عليه كذلك، عبد الهادي النشاش، الصديق القيادي في جبهة التحرير الفلسطينية آنذاك، الذي غادر الأردن إلى لبنان، قبل أشهر قلائل فقط من وصولي إليها في نهاية العام 1977.

وسيكون لي موعد آخر في «مقهى أم نبيل»، فذات صبيحة في مطلع العام 1980، وبينما كنت أمارس هوايتي في احتساء قهوة السيدة النبيلة، متصفحاً السفير والنهار، فإذا بالمرحوم ميشيل النمري، شقيق الصديق جميل النمري، الذي كنت تعرفت إليه عن طريق أمجد ناصر، يمر قبالة المقهى وقد بدا في عجلة من أمره، طلب إلي أن ألحق به، وأن أنهي فوراً طقوس القهوة والصحف الصباحية، فلديه موعد مع السيدة سلوى البنا، وهي كاتبة وقاصة أردنية، كانت تمتلك وتدير مكتباً للخدمات الصحفية، أسمته «منار برس» في منطقة «البربير»، وسيعرض علي ميشيل أن أعمل معه في الصحافة، رفضت وقاومت، على اعتبار أنني لست صحفياً، ولم أفكر يوماً في العمل بالصحافة والإعلام ... لكن أمام إصراره، قررت أن التحق به متردداً ومذعوراً، فالرجل سيزج بي في أتون معمعة حامية الوطيس، وأنا مجرد تماماً من أسلحتها.

طوال الطريق من مقهى أم نبيل إلى مكتب المنار برس، والرجل يعمل على تهدئة روعي، ويسعى في تبسيط المهمة أمامي، ووعدني بأنني في غضون أشهر قلائل فقط، سأصبح صحفياً محترماً ... قدمني إلى السيدة سلوى، وعرفت من خلال أحاديثهما أنها على صلة قرابة لصيقة بصبري البنا «أبو نضال» (أبنة أخيه على ما أظن)، الشهير باغتيالاته المتكررة لقيادات وسفراء فلسطينيين، ومن سخريات القدر، أن «أبو نضال» سيكون لاحقاً، المتهم الرئيس باغتيال ميشيل النمري في أثينا بعد عدة سنوات من ذاك اللقاء.

لم يتعامل ميشيل معي كصحفي متدرب، ففي اجتماع التحرير الذي أصر علي أن أحضره، كلفني بإعداد تحليلات سياسية وإجراء مقابلات مع سياسيين لبنانيين وفلسطينيين... وكانت سعادتي بالغة برؤية ما أنتجه من مواد، منشوراً على صفحات «السياسة» الكويتية» والرأي الأردنية، وغيرها من صحف خليجية، كانت منار برس قد تعاقدت معها لتزويدها بالأخبار والتقارير والمقابلات من لبنان.

وستتاح لي في منار برس أن أعمل مع الكاتب الصحفي والمثقف اللبناني الصديق جورج ناصيف، وأن أتعرف على الصحفية اللبنانية، اليسارية سابقاً، فاطمة حوحو، قبل أن تنتقل إلى جريدة المستقبل الناطقة بلسان تيار الحريري ... وستتكون خبرتي الصحفية في الفترة القصيرة التي قضيتها في الوكالة، قبل أن ألج عتبات مرحلة جديدة في العمل الوطني واليساري الفلسطيني، وللحديث صلة.

المصدر : جريدة الدستور

المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

من منزل في «بربور» إلى مكتب في «البربير» من منزل في «بربور» إلى مكتب في «البربير»



GMT 09:53 2021 الأحد ,03 كانون الثاني / يناير

سؤالنا وتجربتهم

GMT 09:19 2020 الخميس ,30 تموز / يوليو

تونس على صفيح الصراع الإقليمي الساخن

GMT 09:05 2020 الخميس ,23 تموز / يوليو

العراق بين زيارتين وثلاث قذائف

GMT 06:33 2020 السبت ,18 تموز / يوليو

هل بات «الضم» و«صفقة القرن» وراء ظهورنا؟

إطلالات هند صبري تلهم المرأة العصرية بأناقتها ورقيها

القاهرة ـ فلسطين اليوم
تعَد هند صبري واحدة من أبرز نجمات العالم العربي، التي طالما خطفت الأنظار ليس فقط بموهبتها السينمائية الاستثنائية؛ بل أيضاً بأسلوبها الفريد والمميز في عالم الموضة والأزياء. وفي يوم ميلادها، لا يمكننا إلا أن نحتفل بأناقتها وإطلالاتها التي طالما كانت مصدر إلهام للكثير من النساء؛ فهي تحرص على الظهور بإطلالات شرقية تعكس طابعها وتراثها، وفي نفس الوقت، تواكب صيحات الموضة بما يتناسب مع ذوقها الخاص ويعكس شخصيتها. إطلالة هند صبري في مهرجان الجونة 2024 نبدأ إطلالات هند صبري مع هذا الفستان الأنيق الذي اختارته لحضور مهرجان الجونة 2024، والذي تميّز بأناقة وأنوثة بفضل قَصته المستوحاة من حورية البحر، مع زخارف تزيّنه وتذكّرنا بقشور السمك. وهو من توقيع المصممة سهى مراد، وقد زاد سحراً مع الوشاح الطويل باللون الرمادي اللامع وبقماش الساتان، ال...المزيد

GMT 17:36 2020 الثلاثاء ,27 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج الجوزاء الإثنين 26 تشرين الثاني / أكتوبر 2020

GMT 10:19 2019 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

الأحداث المشجعة تدفعك إلى الأمام وتنسيك الماضي

GMT 16:13 2014 الأربعاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

الدكتورة أميرة الهندي تؤكد استحواذ إسرائيل على ثلث المرضى

GMT 22:32 2016 الثلاثاء ,08 تشرين الثاني / نوفمبر

عروض فنية للأطفال في افتتاح مسرح "متروبول"

GMT 06:02 2019 الخميس ,25 إبريل / نيسان

تألق سويفت ولارسون وكلارك وصلاح في حفل "تايم"

GMT 14:01 2020 الخميس ,06 شباط / فبراير

تجاربك السابقة في مجال العمل لم تكن جيّدة

GMT 09:04 2019 الثلاثاء ,01 كانون الثاني / يناير

سكارليت جوهانسون تُوضِّح أنّ وقف تقنية "deepfake" قضية خاسرة

GMT 06:31 2018 الإثنين ,17 كانون الأول / ديسمبر

خبراء يكشفون عن أسوأ 25 كلمة مرور تم استعمالها خلال عام 2018

GMT 15:38 2018 الجمعة ,07 كانون الأول / ديسمبر

أحمد أحمد يتوجّه إلى فرنسا في زيارة تستغرق 3 أيام

GMT 09:02 2018 الجمعة ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

"إسبانيا" الوجهة المثالية لقضاء شهر عسل مميز

GMT 04:53 2015 الأحد ,15 آذار/ مارس

القلادة الكبيرة حلم كل امرأة في موضة 2015
 
palestinetoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

palestinetoday palestinetoday palestinetoday palestinetoday