بقلم : عريب الرنتاوي
أن تصدر ردود الأفعال الغاضبة عن حماس، وبعض الفصائل الحليفة لها، على خطاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس قبل أيام في اجتماع للقيادة الفلسطينية، فهذا أمرٌ مفهوم تماماً، فالتلويح بسيف "العقوبات الوطنية والمالية والقانونية"، أمرٌ تأخذه حماس على محمل الجد، سيما بعد أن تبلغت من المخابرات المصرية، بأن عباس جاد جداً هذه المرة، وأن على الحركة السعي لاحتواء الموقف وضبط ردًات أفعالها.
لكن أن يصدر الغضب و"القلق" عن دوائر أمنية وسياسية إسرائيلية بالذات، وأن ينشغل المستوى الأمني والسياسي في إسرائيل في صياغة الخيارات والبدائل، وأن تعكف مراكز بحث إسرائيلية مرموقة (معهد الأمن القومي مثالاً) على اجتراح الاستراتيجيات والتكتيكات وسبل التعامل وخيارتها، فذلك أمرٌ يحتاج إلى بعض التمحيص والتحليل.
في التفاصيل، أن إسرائيل قررت ألا تسمح للإجراءات التي سيتخذها الرئيس الفلسطيني بأن تأخذ مجراها، وثمة توجه لزيادة إمدادات الطاقة والمحروقات والكهرباء والسلع الغذائية والدوائية، وزيادة التصاريح لرجال الأعمال الفلسطينيين من القطاع بالعبور داخل الأخضر ... حتى أن "ورقة تقدير موقف" لمعهد الأمني القومي، اقترحت أن يتم خصم كلفة هذا "الكرم الإسرائيلي الحاتمي" من أموال السلطة المتأتية من التحصيل الضريبي والجمركي الذي تقوم به إسرائيل في الضفة، نيابة على السلطة.
قبلها، كان البيت الأبيض، فجأة ومن دون سابق إنذار، يتنبّه للمأساة الإنسانية التي يعيشها القطاع وأهله، فيدعو لجلسة "عصف فكري" تشترك فيها أطراف عديدة، للبحث في أنجع السبل لـ "مساعدة" القطاع، ووضع حدٍ لكارثته الإنسانية، وهو الاجتماع الذي قاطعته السلطة، ورأت أنه يندرج في سياق مشروع "دويلة غزة" بديلاً عن حل الدولتين، وعن الدولة الفلسطينية في الضفة والقطاع وعاصمتها القدس، ومن ضمن سياقات "صفقة القرن".
يمكن فهم الموقف الإسرائيلي، تكتيكياً، على أنه سعي محموم لمنع "الانفجار" الوشيك في القطاع، وهو الانفجار الذي حذرت منه أوساط أممية وإقليمية وإسرائيلية، وتعرف السلطة والفصائل وحماس، بأن احتمالاته في تزايد ... ولقد رسم "تقدير الموقف" الصادر عن المعهد الإسرائيلي محاور الخطة الإسرائيلية المقترحة للتعامل مع "سيناريو الانفجار"، ومن بين هذه المحاور، التوسع في تقديم الكهرباء والمحروقات والسلع للغزيين، وتحميل حماس مسؤولياتها عن ضبط الموقف، ومنع خروج المحتجين في ذكرى النكبة عن حدود القطاع إلى الداخل الإسرائيلي، والضغط على عباس والسلطة، للاستمرار في تغطية احتياجات قطاع غزة، والكف عن أية خطوات أو إجراءات جديدة
.نفس الموقف، تقول المصادر الفلسطينية – الإسرائيلية المتطابقة، صدر عن المستويين الأمني والسياسي المصريين ... في اتصال هاتفي بين السيسي وعباس جرى تناول الموضوع، ووفد المخابرات العامة المصرية إلى غزة، دعا الأطراف إلى ضبط النفس واحتواء الموقف، واستدعى وفداً من حماس لزيارة القاهرة اليوم، بما يعكس قلقا مصرياً من مغبة انفجار القطاع في وجه مصر كذلك، وليس في وجه إسرائيل وحدها.
لكن الجانب الفلسطيني في رام الله، يذهب في قراءته لردود الأفعال الإسرائيلية والأمريكية، وبعض المواقف العربية، غير المعلنة على الأقل، إلى ما هو أبعد من "التكتيك"، إذ تبدو القيادة الفلسطينية مسكونة بهاجس "الدويلة" البديلة في غزة، وأن تل أبيب وواشنطن، تسعيان لجعل سيناريو “Gaza Plus”، هو الإطار الفعلي للحل النهائي، أي أن تكون غزة، وليست القدس والضفة، هي قاعدة الاستناد للدولة الفلسطينية العتيدة، على أن ترتبط "كانتونات" ما تبقى من الضفة الغربية، بصورة من الصورة، مع هذه "الدويلة".
ويزداد طين القيادة الفلسطينية بلّة، في ضوء ما يتوفر لديها من معلومات، عن اتصالات حمساوية مع أطراف عربية وإقليمية، تسعى في تعويم حكم حماس وحكومتها في الضفة، بعد تطعيمها بأدوار "وزانة" لشخصيات محسوبة على هذه الأطراف من مثل العقيد المنشق محمد دحلان، إذ بالرغم من "الضجيج الشعاراتي" الذي يصدر عن حماس، ويكاد يصم الآذان، إلا أن ثمة مخاوف حقيقية لدى رام الله، من مغبة تساوق حماس، تحت ضغط "شهيتها المفتوحة" للاستمرار في حكم غزة، ومفاعيل "نظرية التمكين" الإخوانية الشهيرة، مع مقترحات وتسويات، ستفضي حتماً، أرادت حماس أم ترد، عرفت أم لم تعرف، إلى تمرير "صفقة القرن" من تحت أقدام، ووراء ظهر عباس والسلطة وحركة فتح، بل والحركة الوطنية الفلسطينية برمتها.
والحقيقة أن دخان المخاوف الذي يتصاعد في سماء رام الله، ليس من دون نار، إذ في الوقت الذي تقاطع فيه السلطة أية اتصالات مع الجانب الأمريكي بخصوص عملية السلام، وتسعى في بلورة آلية دولية جديدة للوساطة في هذه العملية ورعايتها، رأينا صلاح البردويل، عضو المكتب السياسي للحركة، وفي تصريحات لـ"القدس برس"، يعرب عن استعداد الحركة للاتصال والحوار مع الولايات المتحدة، لكأن الرجل يريد أن يبعث برسائل عن الاستعداد لتأمين بديل عن السلطة الفلسطينية، يمسك بغزة، التي باتت فجأة، قبلة أنظار واشنطن وتل أبيب.
وتحضرني هنا مفارقة غريبة عجيبة، مثيرة للمخاوف ومُعمِّقة للشكوك، فالسيد موسى أبو مرزوق، سبق وأن طلب إلى عباس تسليم حماس مفاتيح السلطة في رام الله، بدل تسلميها لبنيامين نتنياهو، كما لوّح بذلك ذات مرة، أو ربما ذات لحظة غاضبة ... ثمة مؤشر، يتكرر بين الحين والآخر، عن استعداد حماس للحلول محل السلطة، ووراثة دورها والتزاماتها، في كل مرة، تصطدم فيها السلطة بصورة "ساخنة" مع الجانب الإسرائيلي أو الأمريكي، في حين يقتضي المنطق والمسؤولية الوطنية و"برنامج حماس المقاوم"، تدعيم موقف السلطة وتحصينه، والالتفاف حوله والتشجيع على الاستمرار به، أقله في لحظات صدام كهذه، تماماً مثلما اقترح خالد مشعل من الدوحة قبل عدة أسابيع، عندما طالب بـ "الالتفاف" حول موقف عباس، بوصفه العقبة الأهم على طريق مشروع ترامب و"صفقة القرن"، قبل أن تعود الحركة في غزة، لنفي التصريح، واعتباره كأنه لم يكن.
المعركة الأمريكية – الإسرائيلية على عباس، ستتخذ من غزة أيضاً ساحة لها، بإفراغ خطواته وإجراءاته من مفاعليها وتأثيراتها، وتجريده من كل أوراقه في مواجهة حماس .... وحماس اليوم في المقابل، تجد "النصرة" و"العون" من حيث لا تحتسب، من إسرائيل والولايات المتحدة، وهي تلعب بورقة "انفجار غزة" للخروج من عنق الزجاجة التي تعتصر غزة، وتعتصرها في القطاع المحاصر ... كما أنها تلوح بورقة الزحف الجماهيري على السياج الحدودي للقطاع مع إسرائيل ... على أمل أن تستحث أطرافاً على عديدة على نجدتها، لإبطال تهديدات عباس وإفقادها لتأثيراتها، وبما يتيح لها، إطالة أمد سلطتها على القطاع، فمن يدري، إذ ربما تصدق نبوءة القيادي فيها، أحمد يوسف، الذي سبق وأن بشر بمستقبل زاهر للقطاع، إن تحالفت حماس مع "أحد المكونات الأساسية للحركة الوطنية الفلسطينية"، يقصد محمد دحلان تحديداً، ضارباً صفحاً عمّا يمثل ومن يمثل، فلسطينياً وإقليمياً، نازعاً المسألة كلها، من سياقها الأكبر، سياق "تهيئة التربة" الفلسطينية لاستقبال مفاعيل مبادرة ترامب و"صفعة العصر".
المصدر : جريدة الأيام