بقلم - عريب الرنتاوي
نقبل بما يقبل به الفلسطينيون»، شعار رفعته عواصم عربية عدة في أزمنة وظروف مختلفة، وبدا أنه تحوّل إلى «قاعدة حاكمة» عند تشكيل المواقف العربية حيال القضية الفلسطينية وصراع الفلسطينيين من أجل حريتهم واستقلالهم ... لم يجر الالتزام بها دائماً، وإلا لما كانت هناك ضغوط عربية على منظمة التحرير في مراحل عدة، للقبول بما كانت ترفضه ... ولم يكن الاحتكام لهذه «القاعدة» ممكناً لولا ترسخ القناعة عن النظام العربي الرسمي، بأن القيادة الفلسطينية صارت جزءاً منه، تلتزم بمواقفه وتعمل بآلياته وتنضبط لسقوفه.
بدا الأمر مريباً في سنوات سابقة، وبدا الشعار «مفخخاً» بكثير من الألغام، ونظر كثيرون للمسألة – ومن بينهم كاتب هذه السطور – على أنها محاولة لـ»التخلي» تارة و»قنبلة دخانية» الهدف منها التغطية على المسار الهابط للمواقف العربية من مسألة الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي تارة أخرى... بل وكان يمكن الافتراض بأن اللجوء إلى هذا الشعار، إنما يستبطن ميلاً تبريرياً لتهافت السياسات العربية وجنوحها للابتعاد عن قضية العرب المركزية الأولى، والتخفف من أوزارها وأعبائها الثقيلة، لكأن لسان حال النظام العربي كان يقول: لن نكون كاثوليكيين أكثر من البابا نفسه.
لكن الدرك الذي بلغه النظام العربي، والتهافت الذي طبع مواقفه وسياساته، والسوء الذي طبع إدارته لأزماته وعجزه عن حلها، والميل للعمل الانفرادي بديلاً عن العمل الجماعي المشترك ... والهرولة اللاحقة لـ»التطبيع» مع إسرائيل ... يجعلنا اليوم نرى «الجانب الإيجابي» من هذا الشعار، وأن ننظر للنصف الملآن من الكأس، وليس النصف الفارغ منه فحسب.
ففي زمن «صفقة القرن» وانتشار النظرية الأمريكية حول «الإطار الإقليمي» لحل القضية الفلسطينية، بمعزل عن الفلسطينيين أنفسهم، وربما من فوق رؤوسهم ووراء ظهورهم، بتنا نشعر بالارتياح عندما يصدر تصريح عن هذا الزعيم العربي أو ذاك، أو موقف عن هذه الحكومة العربية أو تلك، يردد الشعار «نقبل بما يقبل به الفلسطينيون»، لكأننا أمام «إحالة» هذا الملف من جديد لأصحابه، بعد أن سعت إدارة ترامب مدفوعة بموقف إسرائيلي يميني ضاغط في هذا الاتجاه دوماً، في اختطاف هذا الملف من أيدي الفلسطيني، ووضعه في عهدة «الإطار الإقليمي» المثير للقلق والتحسب.
لا نريد من العرب – الرسميين بالطبع – أكثر من إحالة الملف لإصحابه، في ترجمة لقرار قمتهم في الرباط 1974، الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني ... لا نريد منهم أكثر من إعادة التأكيد على وجوب أن يكون الموقف الجماعي العربي مضبوطاً بقرارات قممهم، بما فيها قمة بيروت ومبادرة السلام العربية ... لا نريد منهم أكثر من تفهّم – حتى لا نبالغ ونقول دعم – الموقف الفلسطيني الرافض لصفقة القرن، وبإجماع فلسطيني نادر.
مدركين الظروف الخاصة بكل نظام عربي، وما يحيط به من تحديات وإكراهات ... لا يتطلع الفلسطينيون لما هو أكثر من التفهم أحياناً ... لكنهم بالطبع يخشون الضغوط المضمرة المتدثرة بشعار «نقبل بما يقبل به الفلسطينيون» ... فمن لا يستطع تقديم العون والإسناد، عليه من باب أضعف الإيمان، ألا «يتطوع» لممارسة ضغوط على الفلسطينيين ... من لا يستطيع الجهر بموقف من «الصفقة المشؤومة» عليه أن يلوذ بالصمت، والصمت فضيلة في بعض الأحيان... ليس مطلوباً من النظام الرسمي العربي أن يفعل أكثر مما تفعله بعض دوله – الأردن مثالاً - كأن يطلق التأكيدات بأن استمرار الاحتلال الإسرائيلي ومنع قيام دولة فلسطينية مستقلة، هو التهديد الأكبر لأمن المنطقة وسلمها واستقرارها، وأن هذا التهديد يتقدم على بقية التهديدات، وإن كان لا يلغيها أو يقزّمها.
لقد انتعش الفلسطينيون بنتائج زيارة رئيس سلطتهم إلى السعودية، وخفف ذلك – قليلاً - من وطأة المشاركة العربية الكثيفة والوازنة في مؤتمر وارسو المثير للقلق والباعث لأشد المخاوف ... مع أن هذه النتائج، لم تخرج عن إطار «نقبل بما يقبل به الفلسطينيون»، لكن في زمن تآكل الموقف العربي، وتفكك الجبهات العربية، تكتسب مواقف كهذه، أهمية كبرى.