عريب الرنتاوي
يتركز الحراك السياسي والعسكري لجبهة خصوم سوريا على فرضية تقول بوجوب الاحتفاظ بالنظام السوري ومؤسساته، بمن فيها المؤسسات العسكرية والأمنية، من دون الأسد ... هي نظرية قديمة، عمرها من عمر الأزمة السورية، تراجعت في العامين الأخيرين، خصوصاً بعد “صفقة الكيماوي”، بيد أنها عادت وانتعشت مع دخول الأزمة السورية عامها الخامس، وعلى وقع التغيير القيادي الأخير في السعودية ومع اندلاع عواصف “الحزم” و”إعادة الأمل”. نقول إنها فرضية قديمة، رافقت الأزمة السورية منذ اندلاعها، وبالأخص، حين تلاشت الثورة ودخلت البلاد في مرحلة العسكرة والتسلح ... لم تبق أية دولة من مجموعة “أصدقاء سوريا” دون أن تحاول جهدها لإسقاط الأسد، ولم يُترك باب أو دهليز دون قرعه أو الولوج في ثناياه الخلفية، بحثاً عن وسيلة لتخليص النظام من رأسه، بيد أن جميع هذه المحاولات، باءت بفشل ذريع، ما اضطر الغرب، أو بعضه على الأقل، للشروع في مراجعات للمواقف والسياسات، بلغت ذروتها في التصريح الشهير للوزير جون كيري الذي أنكر فيه أي دورٍ للأسد في مستقبل سوريا. اليوم، وعلى وقع التطورات الميدانية الدرامية التي حفلت بها الأشهر الثلاث الأخيرة، انتعشت هذه المحاولات من جديد، وبدأ الترويج للشعار/ الفرضية يأخذ طابعاً هجومياً كثيفاً، واشنطن استأنفت الحديث عن الحاجة لتغييب الأسد، ووزير الخارجية السعودية يروّج لتوافق مصري – سعودي حول فرضية الإبقاء على النظام بعد قطع رأسه. لا أحد يعرف حتى الآن، كيف يمكن “ترجمة” هذا الشعار، حتى أشد المتحمسين له، لا يقولون لنا كيف سيفعلون ذلك، هل بتدبير انقلاب في ليل بهيم؟ ... ألم يحاولوا ذلك من قبل من دون جدوى؟ ... هل يتوقعون تمرداً على الأسد من داخل “الحلقة الضيقة” المحيطة به؟ ... هل ينتظرون أحداً للقيام بما يمكن وصفه “أهم عملية اغتيال في تاريخ المنطقة الحديث”، وربما أعلاها كلفةً؟ ... لا أحد يجيب. واشنطن تعرف “ما لا تريده” في سوريا، هي لا تريد للتنظيمات الإرهابية والمتطرفة أن تستولي عليها وتجعل منها ليبيا ثانية، تنطلق منها لتهديد أمنها وأمن حلفائها في المنطقة والعالم ... السعودية تعرف “ما لا تريده” في سوريا أيضاً، وهي باختصار لا تريد للأسد أن يبقى يوماً إضافياً واحداً ... تركيا لا تريد الأسد بدورها، وإن كانت تريد سوريا “مجالاً حيوياً لتجارته وصناعتها، وحديقة خلفية لسلاطينها الجدد ... لكن من جديد، لا أحد يعرف كيف يمكن أن يصل إلى هذه النتيجة. نظام كالنظام السوري، بُنيَ منذ قرابة النصف قرن على “الزعامة الفردية” وحكم القائد الأوحد المُلهَم والمُلهِم، هو أقرب في بنائه إلى نظرية “سنمّار” في العمارة، الذي شيّد قصراً فريداً لأحد الحكام المستبدين، أثار إعجابه حد الدهشة، فما كان من البنّاء المزهو بعظمة إنجازه سوى أن أمعن في استعراض قدراته أمام الحاكم، فكشف له عن سر “الحجر” الذي ما أن يُنتزع من مكانه حتى ينهارالقصر بكامله، وعندما علم الحاكم بهذا السر، سأل البنّاء ما إذا كان قد أفشى به لغيره، وعندما جاءته الإجابة بالنفي، قذف به من على سطح القصر، ليدفع حياته ثمناً لمهاراته الفائقة في البناء. الأسد “حجر سنمّار” النظام السوري القائم، مثل جميع أنظمة الحكم الفردية المطلقة ... إن انتزع من مكانه، من دون ترتيب أو تمهيد، سيسقط البناء كله، تاركاً سوريا برمتها، نهباً للفراغ، وهو فراغ ستملأه على الأرجح، قوى إسلامية متطرفة وإرهابية كتلك التي نعرفها وذاع صيتها ... وليس هناك من ضمانة ولو بالحد الأدنى لسيناريو آخر غير هذا. لتفادي هذه النتيجة ولتجنب المقامرة بكل مكتسباتهما في سوريا، تسعى موسكو وطهران لتفادي “سيناريو سنمّار” هذا ... الأولى بشرت بتقارب مع واشنطن، لا ندري أي العاصمتين ذهبت باتجاه الأخرى حتى الآن ... والثانية تتوعد منذ “عاصفة الحزم” بمسار جديد للأزمة السورية، فيما الجنرال قاسم سليماني يعد بمفاجآت من النوع الثقيل ... واشنطن حائرة بين ضغوط حلفائها التقليديين لإسقاط الأسد، وضغوط مصالحها وحساباتها التي تقول بأن الأولوية لمحاربة داعش أولا ... السعودية ومعها كل من قطر وتركيا، ذاهبة في “سيناريو سينمار” حتى وإن كانت النتيجة سقوط النظام وانهيار المؤسسات وتحول سوريا إلى صومال آخر، وليس إلى ليبيا ثانية ... أما مصر، اللاعب العربي الكبير الثاني، فهي عملياً بلا “سياسة خارجية” مستقلة، وتراوح ما بين وجهة نظرها التقليدية المعبر عن مصالحها وقراءاتها للمشهد السوري من جهة، وضغوط المانح الخليجي الأكبر لاقتصاديات رجل المنطقة المريض من جهة ثانية. في ظني أن مثل هذا السيناريو يبدو متعذراً للغاية، إن لم نقل مستحيلاً في الحالة السورية، الأرجح أن النظام سينهار كما انهار نظاما صدام حسين ومعمر القذافي ... وطالما أن ليس هناك في سوريا قوى مدنية ووطنية قادرة على ملء الفراغ، فإن سيناريو الفوضى والحرب الأهلية المفتوحة وتقسيم البلاد وخضوعها للمنظمات الإرهابية المتطرفة، سيكون الأكثر ترجيحاً على ما عداه من خيارات وبدائل. وحدها عملية سياسية، تشق طريقها بتوافق دولي (روسيا والولايات المتحدة) وإقليمي، يمكن أن تقود إلى حفظ النظام بل وحتى إصلاحه، من دون الاضطرار للعيش “مع الأسد للأبد”... عملية تدريجية تبدأ بنقل الصلاحيات إلى حكومة انتقالية، وتنتهي بانتخابات رئاسية لا يشارك فيها الأسد، مبكرة كانت أم في نهاية ولايته الحالية ... سيناريو كهذا، يمكن وحده أن يوفر فرصة لبقاء النظام والمؤسسات من دون رأسه ورئيسها، وبخلاف ذلك، أضغاث أحلام أو سيناريوهات مشبوهة.