عريب الرنتاوي
ما أن كشف الرئيس عبد الفتاح السيسي عن مضمون المحادثة الهاتفية التي جرت بينه وبين الملك عبد الله الثاني بعد جريمة “داعش” النكراء بحق 21 مواطناً قبطياً قضوا ذبحاً على الشواطئ الليبية، حتى عادت التكهنات والتقديرات تتطاير بخصوص الدور الأردني في الحرب على الإرهاب بجبهاتهاالمتعددة، وتذهب في كل صوب واتجاه... السيسي كان قال، بأن الملك عرض مساعدة عسكرية أردنية على مصر في حربها على الإرهاب.
وأحسب أننا بحاجة مجدداً للتذكير بمحددات وضوابط الموقف الأردني حيال هذه المسألة، وفي ظني أنه بات يتعين على كبار المسؤولين في الدولة، الخروج للرأي العام، ببيان صريح وواضح وشامل، يعدد هذه المحددات، ويرسم بدقة الضوابط الحاكمة للموقف والسياسة الأردنيين حيال مسألة الحرب على الإرهاب، وإلى أن يحصل ذلك، لا بد من المجازفة ببعض الاجتهادات.
وأبدأ بالقول، أن الأردن جزءاً لا يتجزأ من الحرب الكونية على الإرهاب، ومن اليوم الأول نظر الأردن إلى هذه الحرب بوصفها “حربنا”، التي نخوضها لا من باب المجاملة لأحد، ولا لتسديد فواتير أو استحقاقات مسبقة، بل لأنها دفاع مشروع عن النفس، في مواجهة طوفان ظلامي – تدميري، أثبت بأنه لا يُبقي ولا يذر.
وكان لافتاً، أن أول ضربة وجهها سلاح الجو الأردني لمواقع داعش في سوريا والعراق، قد صدر بشأنها بيان عمليات عن القوات المسلحة، فالمشاركة في هذا التحالف كانت رسمية ومعلنة ومتحمسة، إن شئتم، والانخراط في فعالياته العسكرية، كان كذلك أيضاً، وتطور الأمر بعد جريمة اغتيال النقيب معاذ الكساسبة، إذ أخذ شكلاً ثأرياً انتقامياً، كان ضرورياً لغايات رفع المعنويات وحفظ الثقة بالدولة والمؤسسات، وحشد الدعم والتأييد والالتفاف.
لكن مع ذلك، ظل الأردن حذراً في كل ما يتصل، بتجاوز بعض الخطوط الحمراء، أو بعبارة أخرى، حيال كل ما يتصل بالمجازفات والمغامرات غير المحسوبة ... فالأردن مستعد لخوض الحرب الاستخبارية واللوجستية والضربات الجوية ... وأبعد من ذلك، الأردن مستعد لنوع من “العمليات الجراحية”، إن توفرت لدية المعلومات الاستخبارية حول أهداف “دسمة” محددة، حتى وإن كانت بعيدة عن حدوده الجغرافية ... لقد فعلها من قبل وهو جاهز لفعلها الآن ومن بعد، وقد جاهر بذلك غير مسؤول.
ويمضي الأردن في حربه على الإرهاب إلى ما هو أبعد من ذلك ... فهو عرض المساعدة في التدريب والتجهيز على الجيش العراقي و”البيشمركة” و”الحرس الوطني”، وعرض تدريب ما أسمي بـ “المعارضة السورية المعتدلة”، وذهب إلى حد تقديم شحنات دعم عسكرية، رمزية في جوهرها للجيش اللبناني مؤخراً، ومن على قاعدة “الجود من الموجود”.
في الحالة المصرية، يبدو الإعلان الأردني عن الاستعداد لتقديم العون والنصرة العسكريين، أقرب إلى “إعلان النوايا”، أو “بيان التضامن شديد اللهجة”، فالجيش المصري من أكبر الجيوش العربية، ولا أحسب أن القاهرة بحاجة لجنود أردنيين، يرفدون عملياتها ضد الإرهاب، وهي نفسها لم تقرر بعد، عند أية حدود سيتوقف تدخلها في ليبيا ضد “داعش” وأخواتها الكثيرات هناك.
لكن الموقف الأردني، منفتح ويفتح على احتمالات أخرى، من بينها تشكيل “قوة ضاربة عربية مشتركة” تتولى مطاردة “داعش” وأخواتها حيثما لزم الأمر، وحيثما توفرت الظروف والموافقات من حكومات الدول المبتلاة بخطر الإرهاب ... لكن مشاركة الأردن في هذه القوة، ستكون مشروطة بمشاركة عدة دول عربية، من بينها الدول الوازنة، مشاركة حقيقية، تتناسب مع حجمها ووزنها، لا مشاركة رمزية تقتصر على “علم مرفوع فوق خيمة لعشرة أفراد”، كما كانت عليه بعض المشاركات العربية في تجارب سابقة.
مثل هذه القوة العربية المشتركة، المدعّمة بغطاء دولي، سياسي وشرعي، قبل أن يكون غطاءً جوياً عسكرياً، يمكن أن توفر بداية رد عربي فعّال على تحدي الإرهاب والأخطار الناجمة عن تفشيه وانتشاره ... وإن حصل ذلك، فإن المنظومة العربية ستكون قد حذت حذو المنظومة الأفريقية التي بادرت لتشكيل قوة مشتركة لدول جوار نيجيريا، وظيفتها مطاردة بوكوحرام في المنطقة حتى استئصالها ... لقد فعلها الأفارقة وسبقونا في ذلك، فهل سيلتحق العرب بأشقائهم في القارة السوداء، أم أنهم سيبقون في انتظار “غودو الذي عادة لا يأتي”؟!
يدرك الأردن، أن “اللحظة الاستثنائية” التي يعيشها على وقع فعل الشهادة احتراقاً، قد لا تستمر طويلاً، بل وقد تنقلب إلى نقيضها، إن خطت السياسة الأردنية في الحرب على الإرهاب خطوات غير محسوبة، لذا فلا يظنن أحد، أن الأردن قد وضع نفسه على مقربة من جرس الإنذار بانتظار أوامر العمليات للقتال في كل مكان وكيفما كان، ولا يتصورن أحد، أن الأردنيين يتقافزون للانتقال إلى الجبهات القريبة والبعيدة، للثأر من داعش أو غيرها، فلدينا ما يكفينا من مهام ومسؤوليات وتحديات، تخص الداخل بملفاته العديدة وأمن الحدود والمعابر الدولية مع جوارنا الملتهب.