عريب الرنتاوي
تتلقف وسائل الإعلام العربية الموزعة على المحاور والمذاهب، أية إشارة أو إيماءة تتعلق بمستقبل الرئيس السوري، تصدر سواء عن موسكو أو واشنطن، ثم “تنفخ” فيها فتصبح انتصاراً لهذا المحور، واستتباعاً هزيمة لذاك، طالما أن المعادلة التي تحكم صراع المحاور، هي “المعادلة الصفرية” ... فإن أومأ أوباما برأسه دلالة على قبوله بوجهة نظر حلفائه في المنطقة، خرجت علينا العواصم والمنابر ووسائل إعلام، بخطاب “انتصاري”: ها هي واشنطن تقتنع أخيراً بضرورة رحيل الأسد أو ترحيله... وإن سقط اسم الرئيس سهواً من واحدة من خطاباته وتصريحاته، خرج علينا المحور المقابل، بعواصمه ومنابره ووسائله، بخطاب “انتصاري” من نوع آخر: ألم تروا، لقد كفت واشنطن عن المطالبة بإسقاط الأسد، والفضل في ذلك يعود لصمود وثبات وتضامن “محور المقاومة والممانعة”، والأمر من قبل ومن بعد، دلالة على النصر المؤزر المتحقق أو الوشيك. الحالة ذاتها تتكرر بعد كل زيارة يقوم وفد من وفود المعارضة السورية أو الدول الداعمة لها إلى موسكو: بوتين لم يعد معنياً ببقاء الأسد، موسكو لا تتعامل مع الأشخاص بل مع المصالح، الكرملين وصل إلى الخلاصة بأن رحيل الأسد بات شرطاً لحل الأزمة السورية، وتأخذ هذه التصريحات، صورة “عنترية” عندما تصدر عن بعض مراهقي المعارضة السورية، حديثي العهد بالسياسة ... في المقابل، لا تتوقف أطراف “الممانعة” عن رصد كل إيماءة تذهب باتجاه تجديد الالتزام الروسي بدعم الأسد ونظامه، وتنفخ فيها بذات الروحية من دون زيادة أو نقصان. بعد ثلاثمائة ألف قتيل سوري، ومليارات الدولارات من الخسائر المادية، وخراب مقيم في بنية الدولة والمجتمع، لا يزال الحديث عن الأزمة السورية، يدور حول الأسد ودوره، هل له دور في مستقبل سوريا أم لا؟ ... حتى ونحن نكاد نصل إلى الاستنتاج بأنه لا مستقبل لسوريا، وأن سوريا التي عرفناها، قد لا تعود أبداً، يظل السؤال الذي يطاردك دوماً: هل للأسد دور في مستقبل سوريا؟ ... هل هو دور مقرر، نصف مقرر، بروتوكولي أم ماذا؟ يأتيك معارض متحمس فيقول: بعد أكثر من ربع مليون قتيل، هل تريد لنا أن نقبل ببقاء الأسد أو شراكته في تقرير مستقبل سوريا؟ ... تتذكر فجأة أن نفس المعارض المتحمس، سبق وأن طرح على مسامعك التساؤل ذاته، عندما لم يكن عدد ضحايا الحرب في سوريا وعليها، قد تخطى العشرين أو الثلاثين ألف قتيلاً .... وقد يعيد طرح التساؤل من جديد، بعد أن يبلغ عدد القتلى النصف مليون ... لا قيمة للبشر والشجر والحجر في عرف هؤلاء، المهم حسم الخلاف حول بقاء الرئيس الأسد أو عدمه، كيف سيرتسم دوره في المستقبل، مستقبل سوريا بالطبع. هو سؤال غبي وأحمق بامتياز، بعد كل هذا الخراب والدماء الذي لحق بسوريا، وفي ضوء كل هذه الأخطار والتهديدات والتحديات التي تجابه سوريا، ومن خلفها المنطقة بأسرها ... سؤال غبي بامتياز، إذ يجعل نظرياً، من مصير شخص واحد، حتى وإن كان بموقع الأسد ودوره، أولى بالاهتمام، من مصير شعب ودولة ومجتمع ... وهو سؤال غبي عملياً، لأن لا قيمة للخلاف حول دور الأسد، إن لم يكن لسوريا مستقبل، وكافة المؤشرات تؤكد أن لا مستقبل لسوريا، بل ولا لوجود لسوريا، خارج سياق الحلول السياسية التفاوضية – التوافقية، وعندها لا قيمة لكل هذا الجدل البيزنطي. فالأسد إن بقي، لن يحكم كما فعل في السابق، والنظام لن يعاود ممارسة مهامه ووظائفه كالمعتاد، والعملية السياسية ربما تكون أقصر الطرق للتغيير في سوريا... أذكر حواراً دار ذات يوم، في بواكير الأزمة السورية، مع أحد رموز المعارضة، الذي أبدى ضيقاً بالعملية السياسية واستخفافاً بدورها في التغيير، يومها احتج بأن التغيير لا يحتمل الانتظار لسنتين أو ثلاث سنوات انتقاليه، ها هي الأزمة السورية، تقطع خمسة أعوام دامية عجاف، والعملية السياسية – الانتقالية لم تبدأ بعد .... يا لهم من ضيقي أفق، أو مؤتمَرين يتحركون بالريموت كونترول . والأسد إن رَحَلَ أو رُحّل، كيف يمكن الاطمئنان إلى أن الديكتاتورية قد رحلت معه، وأن سوريا قد غادرت مربع الفساد والاستبداد ... بل وما هي ضمانة، ألا تحل “الخلافة” محل “الرئاسة الوراثية”، سيما وأن قوات “الخليفة” باتت تقاتل اليوم في القدم والتضامن ويلدا، على بوابة دمشق الجنوبية ... كيف يمكن في مناخات كهذه، الاستمرار بالغرق في دهاليز “دور الأسد” ... إنه أمرٌ مثير للغثيان، خصوصاً حين يصدر عن دول لا تختلف طبيعة نظمها عن طبيعة نظام الأسد، وستكون في طليعة مناهضي الانتقال الديمقراطي لسوريا، أوعندما يأتي على ألسنة معارضين، بالكاد يمتلكون نفوذاً على أسرهم الصغيرة، دع عنك حكاية “الممثل الشرعي الوحيد” للشعب السوري. يبدو أننا سنمضي في هذا النقاش حتى إشعار آخر، وفي هذا الوقت، سيواصل السوريون ممارسة “الموت الجماعي”، إن لم يكن في ساحات القتال والمواجهة، ففي عرض البحر وبرادات نقل الطعام، التي تحولت إلى برادات نقل الموتى... وسنظل نجد في تصريحات الكرملين وإيماءات البيت الأبيض، ما يرضي حاجتنا للبحث عن انتصارات صغيرة ... عشتم وعاشت سوريا.