بقلم: أسامة غريب
مساكين هؤلاء الذين يؤجلون السعادة في الغربة انتظاراً ليوم العودة إلى الوطن. مساكين لأنهم يضيعون أعمارهم في الخارج دون أن يجسر الواحد منهم على تخيل شكل السعادة بعيدا عن الديار، ودون أن يتمكن من الإحساس بروعة اللحظة الآنية أو الاستمتاع بما في يده اليوم، انتظاراً للجنة الموعودة بعد الإياب من الغربة.
كثيراً ما تطوف برأسى الأفكار عن حال هؤلاء، لأن هذا الموضوع شغلنى شخصياً وعِشت ويلاته أيضاً، أنا الذي قضى سنوات طوالاً من عمره خارج بلده. لقد عشت في كندا حياة مرفهة، وسكنت بيوتاً أشبه بالجنة، ومع ذلك أذكر أننى قضيت سنوات أنظر إلى غرفة الجاكوزى داخل البيت في تهيّب، ولا أجرؤ على أن أخطو داخل المغطس لأعيش هذه التجربة التي يقولون إنها ممتعة ومريحة.. كنت أحاول إقناع نفسى بأن السبب هو أننى لا أريد التعود على هذا النمط من العيش، لأنه مؤقت، ثم أعود بعدها إلى بيتى في مصر حيث لا جاكوزى.. كانت الحجة كما ترون واهية، لأننى ببساطة أستطيع تركيب جاكوزى في مصر، والأمر ليس معضلاً، لكنى كنت أتجاهل السبب الحقيقى، وهو أننى لا أستطيع أن أشعر بالسعادة الحقة بعيداً عن بلدى، ذلك أن الإحساس بوقتية الحالة يجعل القلق يسرق الفرح ويقف عائقاً بينك وبين السعادة.
الأمر نفسه حدث في السنوات التي عشتها في بعض البلدان العربية، وقد كنت في أحدها أقيم بمسكن رائع بأحد الأبراج السامقة المطلة على الخليج. كان المنظر من التراس أكثر من ساحر، والجالس بالبيت تكاد تلامس يداه صفحة الماء.. ما أجمله من مسكن وما أروعه من «فيو».. لكنى مع ذلك كنت أقضى الوقت أو معظمه خارج البيت، لأن إحساساً بالضيق كان ينتابنى كلما تخيلت أن هذه الشرفة كان ينبغى أن تكون على النيل في القاهرة حتى تكتمل الراحة والسعادة.
وقد أحسست بذلك أيضاً عندما رأيت إعلانات في رومانيا وفى المجر وغيرهما عن شقق وشاليهات للبيع بأسعار رخيصة، أقل من ربع الأسعار في مصر، وكان المعروض منها يقع في أماكن طبيعية بديعة على ضفاف بحيرات أو بالقرب من مرتفعات مزروعة بالخضرة والورود، ورغم ذلك لم تراودنى أبداً فكرة الشراء، لأنه لا قيمة لمسكن لا أستطيع الوصول إليه إلا بعد الحصول على تأشيرة، قد تكون متاحة اليوم لكنها قد تصبح متعذرة غداً بفعل السياسة وغيرها، لا قيمة لمسكن في بلد تفصلنى عنه جمارك وجوازات وصالات انتظار ورحلات طيران. والأمر هنا يختلف عن السفر للسياحة، لأن من طبيعة السياحة ولزوم الاستمتاع بها إدراك المرء أنه غريب، بل استمتاعه بكونه غريباً، وهو الأمر الذي يختلف تماماً عن الإقامة لسنوات.
لاشك أن الواقعيين والعقلانيين يُغضبهم هذا النوع من البشر الذين تشغلهم متابعة الحلم عن عيش الواقع، ويُفنون العمر وهم يؤجلون الحياة في انتظار سعادة في الغالب لن تأتى.. أفهم هذا كله، لكنى أتفهم أيضاً إحساس الشاعر بدر شاكر السياب وهو يكتب لحبيبته من الغربة:
لو جئتِ في البلد الغريب إلىَّ ما كمُل اللقاء.. الملتقى بك والعراق على يدىَّ هو اللقاء
أتعاطف دوماً مع دوافع الحالمين المنتظرين، لأننى ببساطة كنت واحداً منهم!