بقلم: أسامة غريب
للفنان القدير الراحل محمد توفيق مقولة لا أنساها فى فيلم «عفاريت الأسفلت» قالها لمن حذّره من أضرار التدخين.. قال: الرجل الذى يحافظ على صحته هو إنسان خسيس!
كلما تأملت هذه الجملة وجدتها على غرابتها تحمل قدراً من الحكمة لا يجوز الاستهانة به. صحيح أن التدخين ضار جداً بالصحة كما هو مكتوب على علب السجائر، وصحيح أننى أقلعت عن التدخين بعد أن دخنت ثلاثين عاماً منذ كنت تلميذاً وحتى حاصرتنى الأزمات التنفسية، إلا أن فكرة تعقيم الإنسان بإبعاده عن التدخين الذى يدمر الرئتين وإبعاده عن الطعام الدسم الذى يسد الشرايين وتحذيره من الخروج فى البرد بملابس خفيفة ومن نزول البحر والموج عال ومن شراء أوراق اللوتاريا ومن مصادقة البنات ومن السهر خارج البيت والسهر داخل البيت ومن مصاحبة رفقاء السوء الذين لا يذاكرون كثيراً ويلعبون معظم الوقت.. هذه الفكرة ربما ينتج عنها مواطن تقبله الكليات العسكرية وكلية التربية الرياضية.. لكن هل هذه هى كل الحياة؟ فى اعتقادى أن الحياة أوسع وأعرض من مجرد الحفاظ المَرَضى على الصحة.. أنا بطبيعة الحال أعلم أن الإنسان يحتاج لأن يكون سليماً حتى يستمتع بالحياة، لكن هل الحياة التى ليس بها سوى شرب اللبن وأكل الخس والجزر والنوم المبكر هى أفضل الموجود؟. لقد كنت تلميذاً مدخناً لكنى لم أرسب وأفشل وأضيع كما تنبّأ أهلى، وقد صادقت جميع من اصطُلح على تسميتهم برفقاء السوء، وخرجت من معرفتهم بزاد وافر من خبرة الحياة، فضلاً عن متعة مجالسة خفاف الظل الذين تتفجر الكوميديا من بين أيديهم. إننى لا أستطيع أن أنسى أن أتعس سنة فى حياتى كانت العام الدراسى الذى أجلسونى فيه فى فصل المتفوقين، حيث العيال المتخشبة التى لا تفهم النكتة ولا تجيد غير المذاكرة والحفظ خشية أن يفقدوا ما يميزهم وهو الشطارة والتفوق الدراسى، التى كفلت لهم على الدوام رضا المدرسين والآباء..هؤلاء لم يجربوا متعة إغضاب المدرسين واستفزازهم لدرجة استخدام العصا ضد تلميذ نجح فى إحراجهم علمياً ووجّه لهم أسئلة عجزوا عن إجابتها لأنها غير موجودة فى الإجابات النموذجية التى يعيشون معها. ليس معنى هذا أننى أشجع على التدخين أو أدعو إلى الانحراف.. كل ما فى الأمر أننى أود أن ألفت النظر إلى أبعاد أخرى فى الصورة لا يراها الناس لفرط رعبهم من الحياة!. لقد عرفت زميلاً كان يرفض بشدة أن يجلس معنا على القهوة ونحن تلاميذ حتى لا تفوته المذاكرة، وكان لا يأتى معنا للسينما لأن بها أفلاماً للكبار، فقط حذره منها أبوه، وكان يخاف من وضع شطة على الكشرى لأن أمه حذرته من الطعام الحراق، ولم يكن يفوّت أى فرصة لممارسة الرياضية وتكوين عضلات.. هذا الزميل مات قبل أن يبلغ العشرين مريضاً بالسرطان. لقد كان أسوأ ما يمكن أن يحدث لزميلى هذا لو أنه دخّن فى السنوات الخمس الأخيرة من عمره هو أن يصاب بالسرطان!
لست أدعو الناس للرذيلة ولا أحرضهم على العصيان لكنى أدعوهم لتأمل حكمة الحياة التى لا تمنح السعادة بالضرورة لمن يسير على الكتالوج، بينما قد تكون سخية مع مغامر رفض أن يكون شخصاً خسيساً!