بقلم أسامة غريب
قال لى صديقى: إن هذا الرجل الذى يطلب المقعد بالغ السذاجة.. لو أنه أعلن أنه مريض أو لديه ظرف إنسانى عاجل يقتضى السفر لوجد بضعة أشخاص يمنحونه أماكنهم عن طيب خاطر. قلت له: هل تلومه على أنه لا يكذب؟ قال: لو أن التنازل عن المقاعد مسموح به فى مطاراتنا كما يحدث هنا لوجدت هذا الأخ يمثل مشهداً مسرحياً يزعم فيه أن أمه ماتت محروقة أو خالته ضربها تسونامى ليستدر عطف الركاب ويستولى على مقعد أحدهم!. ضحكتُ من مخيلته الواسعة ورؤيته التى لا تخلو من صحة، وانتظرت لأرى بقية المشهد.
لم يستجب أحد للعرض، الأمر الذى دفع الزبون لرفع المبلغ إلى مائتى دولار. كانت المشكلة أن أغلب الركاب عبارة عن زوجين أو عائلة، ولا يسهل بالتالى على أحدهم أن ينفصل ويترك مَن معه، وتعلقت الأنظار بالمسافرين الفرادى بلا رفاق، الذين يبدو أنهم غرقوا فى التفكير فى جدوى العرض. ما أدهشنى أن شركة الطيران، التى كانت مجرد واسطة خير ولم تكن طرفاً فى الموضوع، تطوعت بتقديم قسيمة شراء
مقبولة لدى مطاعم المطار قيمتها عشرون دولاراً لمَن يقبل العرض، وكان هذا موقفاً إيجابياً لصالح أحد الركاب، الذى يبدو أنه كان حائزاً بطاقة 1
«المسافر الدائم»، التى تمنح صاحبها حظوة لدى الشركة الناقلة.
لم يجذب العرض اهتمام أحد.. ومرة أخرى- ربما كانت الأخيرة- ينفتح الميكروفون ليعلن عن ثلاثمائة دولار تذهب لمَن يقبل التنازل عن مقعده. وهنا فوجئت بما لم أتوقعه.. وجدت الصديق الذى يرافقنى فى رحلتى يرفع يده ويسارع بالتوجه إلى الموظفة يمنحها بطاقته، فتقوم بتغييرها على الفور، وتطبع واحدة جديدة له على الرحلة التالية، مع ثلاثمائة دولار وقسيمة الشراء. قبل أن أسأله عما فعل بادر هو بالتوضيح قائلاً: المبلغ يا صاحبى أكبر من ثمن التذكرة، ومعنى هذا أننى حظيت بسفرة مجانية، ولا بأس بالانتظار بضع ساعات، فالدنيا لن تطير. ضحكت من طريقته العملية فى حساب الأمور، وكنت أظن أن وجودنا معاً يمنع أحدنا من التفكير فى عرضٍ كهذا، لقد ذهبنا معاً إلى نيويورك لقضاء العطلة، وظننت أن الطبيعى أن نعود معاً.. صحيح هو لم يفعل ما يمسنى أو يؤذينى، لكنى مع هذا لم أستطع النظر إلى ما فعل بحسبانه تصرفاً طيباً، لكن ربما أن تصوراتى عن الحياة تحتاج تعديلات!. سلمت عليه ودخلت إلى الطائرة التى أقلعت مباشرة وبعد أقل من الساعة هبطنا فى مونتريال.
قبل الخروج من المطار كانت الأخبار قد انتشرت عن العاصفة الثلجية التى ضربت الساحل الشرقى منذ قليل، وهو ما سيؤدى تلقائياً إلى أن شركات الطيران ستعلق رحلاتها من وإلى مونتريال وهاليفاكس ونيويورك وبوسطن وغيرها من المدن القريبة من ساحل الأطلنطى. هذا معناه أن صديقى الطَموح سيبيت على حسابه بأحد فنادق مطار لاجوارديا حتى استئناف الرحلات مرة أخرى، لأن شركة الطيران- ذات التكلفة المحدودة، التى تبيع تذاكرها بأسعار رخيصة- لن تمنح أحداً قسائم مبيت، وهذا الأمر معروف مقدماً.. مسكين صاحبى الذى أخذ تذكرة رجل كان يعرف بالتأكيد ما سيحدث.. أخذ التذكرة والفلوس وهو يظن نفسه من المحظوظين، فإذا به من العالقين!