بقلم أسامة غريب
يثور الكلام فى ذكرى 23 يوليو عن دور جمال عبدالناصر وأثره الممتد على الحياة المصرية حتى الآن، وبينما يوجد من يقدسونه وينزلونه منزلة الأنبياء، هناك من يلعنونه ويضعونه مع الشياطين فى سياق واحد. ولمّا كنتُ بعيداً عن أولئك وهؤلاء فإننى أود أن أوضح للملتاثين الذين يرونه كافراً ونظرائهم الذين يعدونه قديساً أن ما تركه الرجل ينقسم إلى قسمين، الأول عبارة عن قواعد راسخة زرعها فى التربة المصرية واستمرت من بعده لم تتغير أبداً، لا على زمن خلفه الذى قُتل أو وريثه الذى خُلع أو الآخر الذى عُزل. لم يستطع أى من الذين أتوا بعده أن يقتربوا من القواعد الثابتة التى تركها والتى تمثلت فى تنحية المواطن المصرى بعيداً عما يخص شؤون الحكم بعد أن تم اعتبار الحكم كهنوتاً لا يقترب منه إلا خاصة الخاصة، وحتى عندما كانت تُجرى انتخابات واستفتاءات لإرضاء العالم الخارجى فإنه كان يتم تزويرها، والعجيب أن عبدالناصر الذى كانت شعبيته كبيرة ونجاحه مضموناً كان يصر على التزوير حتى لا يظن المواطن المصرى أنه شريك فى الحكم!. من الأصول التى تجذرت أيضاً غياب الشفافية والمساءلة، إذ إنه ليس ضرورياً أن يحاط الناس علماً بأى شىء يخص حياتهم ومستقبلهم، وعندما تقع الواقعة وتحدث الكارثة فإن أحداً لا يحاسَب أو يحاكَم أو يدفع الثمن.. يكفى تنحية المسؤول ثم يستمر نفس النهج الكارثى على يد مسؤول جديد!. وثالثة الأثافى فى القواعد المزروعة هى إدخال التعذيب الوحشى ضد الخصوم السياسيين فى بنية المنظومة الأمنية، والأنكى اعتقال النساء واتخاذهن رهائن لكسر شوكة الرجال. هذه هى الركائز الأساسية التى زرعها عبدالناصر ولم تذهب بذهابه. أما الإنجازات التى قام بها الرجل لصالح الفقراء ولصالح كبرياء مصر فهى حقيقية وليست أكاذيب كما يردد خصوم الرجل، فبناء المصانع حقيقة واقعة، وكذلك حقوق العمال وإنصاف الفلاحين وبناء المدارس ومجانية التعليم والعلاج وعدم الانحياز ومحاربة الاستعمار.. كل هذه حقائق وليست أكاذيب، لكنها تمت كإجراءات يحميها وجود عبدالناصر نفسه، لقد كان الرجل يظن أنه سيعيش للأبد وسيظل ضامناً لحقوق الغلابة، فلم يحاول أن يجعل مكتسبات الشعب متجذرة فى الأرض مثلما قام بتأمين مكتسبات السلطة الحاكمة الباغية، ولهذا فقد سَهُل اقتلاع كل إنجازاته فأصبحت هشيماً تذروه الرياح، فلو أنه اهتم بوجود نقابات عمالية حقيقية لما استطاع من أتوا بعده أن يعصفوا بالعمال ويبيعوا المصانع، ولو أنه أقام مجالس نيابية بحق لما استطاع خلفاؤه أن يلغوا مجانية التعليم ويتوقفوا عن بناء مساكن للفقراء، ولو أنه لم يذل المواطن ويكسر نفسه لتصدى لمن جرؤ أن يقول: بيجن صديقى ووايزمان صديقى!. لقد بقيت الأصول التى بنى لها عبدالناصر الأساسات القوية على عمق كبير تحت الأرض وكلها لصالح الاستبداد والديكتاتورية، بينما زالت الإجراءات التى صنعها من ورق ووقف يحميها بنفسه، حتى إذا رحل طارت كلها خلفه.
أرجو أن يكون الكلام واضحاً لمن يخلطون المفاهيم ويرددون كلاماً فخيماً عن أن الرجل كان عظيم الأمجاد عظيم الأخطاء. لا يا سادة.. الأمر واضح ولكنكم تستعبطون.