بقلم : أسامة غريب
نحن نميل للتسامح فى شهر رمضان لأن القلوب لا تحتمل الصراحة والمواجهة بالحقائق طوال الوقت. فى اللحظات التى تعقب انطلاق مدفع الإفطار وبدء المؤذنين بالصدح بأذان المغرب ينتشر فى الشوارع الصبية الصغار والشباب اليافعون والرجال الطيبون يقدمون لعابرى السبيل والسيارات التى يسرع ركابها من أجل الوصول للمنازل وتناول الإفطار.. يقدمون لهم ما تيسر من حبات تمر وأكواب صغيرة من الماء والعرقسوس.. يفعلون هذا فى تقليد محبب ومتوارث منذ أجيال. ورغم أن البعض قد يندفع فى بحثه عن الثواب إلى التصدى بجسمه للسيارات المسرعة من أجل منح سائقيها النفحات الرمضانية بالإكراه! وبرغم أن بعض الصبية قد يتجاوزون فى حق من يرفض النفحة ويمطرونه بسخريتهم وشتائمهم، إلا أن هذا التقليد يظل رغم بعض أخطاء الممارسة تقليداً نبيلاً يحمل التعاطف والتراحم بين الناس
لكن ما قولك أن العيال التى تتطوع للقيام بهذا العمل الصالح هى نفسها العيال السافلة التى تتعرض للإناث بالمعاكسة والحصار فى الشارع والتحرش اللفظى والجسدى فى المساء وبعد الانتهاء من صلاة العشاء!. تسألنى من أدراك أن هؤلاء هم أنفسهم المتحرشون، وأقول لك إن الأحياء السكنية لا ينبت لها سكان جدد ما بين المغرب والعشاء!..هم هم أنفسهم الذين يبدأ معدل استهتارهم فى التزايد يوماً بعد يوم حتى يبلغ ذروته عقب صلاة العيد والاندفاع فى الشوارع لوضع اليد على أجساد الفتيات والنساء فى كبرى شوارع العاصمة والمحافظات المختلفة. لا أظن أن الوضع يدعو للدهشة، فلم يعد فى أوضاعنا المقلوبة ما يدهش، فالشوارع التى تمتد فيها السجاجيد والأبسطة وورق الجرائد من أجل صلاة التراويح تشهد رجالاً يحرصون كل الحرص على ألا تفوتهم هذه الصلاة يوماً واحداً خلال الشهر..
هؤلاء الرجال أنفسهم وليس أحداً آخر هم من تضطر أن تدفع لهم الرشوة فى الصباح من أجل إنجاز أى مصلحة تحتاجها، وهم الذين يفعلون المستحيل لتعطيل مصالح العباد ومحاولة التزويغ من العمل والعودة للبيت دون أن تبلغ ساعات اشتغالهم ساعتين فى اليوم الرمضانى! وستجد من بينهم الميكانيكى الملعون الذى فشل فى إصلاح السيارة ورغم ذلك لهف مبلغاً محترماً، والسباك الذى قدم أسوأ شغل حتى تستدعيه من جديد، والبقال الذى يبيع سلعاً تالفة والصيدلى الذى يبيعك أدوية منتهية الصلاحية، وصاحب المطعم الذى يشوى طيوراً نافقة ولحوم حمير، والطبيب الذى يطلب تحاليل لا يحتاجها المريض لأنه يأخذ عمولته من صاحب المعمل.. كل هؤلاء هم الذين يقفون إلى جوارك فى الشارع يصلون التراويح ويقولون لك: حرماً، وتقبّل الله، وهم مسبلو العيون من فرط الخشوع!.. ولماذا سنذهب بعيداً.. إن المتبرعين الكرماء الذين يملأون خزائن جمعية رسالة وجمعية الطفل اليتيم ومستشفى ثلاث خمسات وأربع سبعات وخمس تسعات هم أنفسهم أبناء هذا الوطن: الموظف المرتشى والسباك الحرامى والمهندس الغشاش والميكانيكى النصاب والمدرس المتكاسل والشاب الصايع المتحرش.
مصر هى عاصمة منطقة الشرق الأوسط للأمراض العقلية!.