بقلم أسامة غريب
كنت أشرب الشاى فى «بيت الشاى الروسى» بمدينة نيويورك فى حضور مجموعة من المثقفين والصحفيين الأمريكان. كان الحديث يدور حول حل الدولتين الذى يسعى نتنياهو لوأده وجعله مستحيلاً، ولم يفتنى قاصداً أن أذكّر الجميع بالعدوان الذى تقوم به إسرائيل بشكل دورى على قطاع غزة بحيث تجعل الحياة جحيماً على الدوام، عندما انبرى أحد الصحفيين اليهود بقطع كلامى محاولاً تسجيل نقطة لصالحه. سألنى بتحدٍ: بلغنى أن لديكم فى مصر أناسا ينكرون الهولوكوست، وأخشى أن إدانتك المريرة للعمليات الإسرائيلية ضد الإرهابيين فى غزة قد تشى بأنك من الممكن أن تكون من هؤلاء الذين ينكرون المحرقة؟
شعرت باستياء شديد من السؤال ومن الأسلوب الماكر فى توجيه دفة الحديث. قلت له: لست أعرف حجم ما فعله هتلر باليهود على وجه الدقة، وإن كنت قد قرأت بطبيعة الحال عن جرائم النازى بحق اليهود فى أوروبا أثناء الحرب العالمية الثانية.. ولاشك أننى أدين بكل قوة أى جريمة ضد الإنسانية يرتكبها أى أحد بحق اليهود وغير اليهود. انفرجت أساريره قليلاً غير أننى عاجلته: ولكن من المؤسف أن الذين نجوا من الهولوكوست وأفلتوا من محرقة هتلر توافدوا على أرضنا فى فلسطين فاحتلوها وطردوا أهلها بعد أن روعوهم وارتكبوا فى حقهم المجازر فى دير ياسين وكفر قاسم وغيرهما.
لم أكن وحدى صاحب هذا الرأى فى تلك الجلسة وإنما وقف معى بعض الأصدقاء العرب وأمّنوا على كلامى، الأمر الذى دفع صاحبنا للانصراف ومغادرة المكان بعدما أدرك أن حكاية الهولوكوست لن تجعله يهزمنا فى النقاش، خاصة أننا لا ننكره، لكن نؤكد أن الإسرائيليين انتقموا منا بدلاً من أن يردوا الضربة لمن أحرقوهم!
عندما يسألنى أحد عن الهولوكوست فإننى لن أتحامق وأنكره، لكن إذا لم تكن المحرقة مطروحة فلن أستدعيها أبداً لأننى لا أعمل لصالح الآلة الإعلامية للكيان الصهيونى، بل إننى سأسعى لتذكير العالم بالمجازر الإسرائيلية فى حق أبناء شعب فلسطين طوال السبعين عاماً الماضية. ليس هناك ما يدعونى لتذكير العالم بدون مناسبة بما حدث لليهود، خاصة أننا لسنا مسؤولين عنه وإنما كنا ومازلنا نتحمل الإبادة والطرد من أبناء وأحفاد ضحايا الهولوكوست.. ثم إن الإسرائيليين لم يبرز منهم أبداً من يأسى على ضحايانا فى مصنع أبوزعبل، ولا على أطفالنا الصغار الذين أذاب النابالم عظامهم فى مدرسة بحر البقر وفى معسكر قانا، كما لم نسمع أن أحدهم قد أدان إحراق أطفال غزة بالفوسفور الأبيض.
جعلنى هذا النقاش أتذكر حديثاً أدلى به البرادعى منذ سنوات لمجلة «دير شبيجل» الألمانية، وكان وقتها يخوض صراعاً سياسياً ضد خصومه من الإسلاميين عندما تطوع دون مناسبة وقال لمندوب الجريدة إن خصومه فى مصر يكرهون الموسيقى كما أنهم ينكرون الهولوكوست. كان البرادعى محقاً فى مسألة الموسيقى التى يكرهها الخنفشاريون المصريون، لكنه أخطأ بالتأكيد عندما غازل أبناء العم ورفع مأساتهم فوق رأسه مجاملاً، ولعل هذا وغيره ما يجعل مثل هذا الصحفى اليهودى يستسهل أن يقحم هذا الأمر معى فى الحديث لعلّى أخضع وأحاول استرضاءه أسوة بالأفندى بتاعنا!.