بقلم : أسامة غريب
تجتاح مصر ظاهرة جديدة لم تعرفها إلا فى السنوات الأخيرة، وهى ظاهرة الشهرة المدوية التى حصلت عليها مطاعم شعبية كانت موجودة طوال الوقت دون أن تحظى بأهمية استثنائية، أو أن تكون مقصداً لعلية القوم. كان الموسرون من الطبقة العليا يفضلون تناول الطعام فى المطاعم التى تقدم الطعام الغربى، سواء فرنسى، سويسرى، إيطالى، جريجى.. وكان أغنياء التجار وأفراد الطبقة المتوسطة يجدون كل السعادة فى ارتياد مطاعم الكباب، وبالذات المشهور منها فى وسط البلد.
لكن فى السنوات الأخيرة، بدأت ظاهرة ابتدعها الشباب «الكول»، وهى الإقبال على المطاعم الشعبية التى تقدم الكبدة والسجق وغيرهما، وهم عندما فعلوا هذا فإنهم لم يتناولوا طعامهم فى صمت وإنما استخدموا وسائل التواصل الاجتماعى كماكينات دعاية شديدة الفاعلية فى دعم بعض هذه المطاعم والتعريف بها على أوسع نطاق، حتى بدأ الذين لم يذهبوا إلى مطعم «فوزى تلوث» أو مطعم «عباس النتن» يشعرون بالتخلف عن ركب الحياة الجديدة.
ولعلنا نلاحظ أن مناخ الغلظة والبذاءة والمباهاة بتدهور الإحساس قد دفع بمجموعات الشباب إلى الالتقاء بهذه الأماكن، باعتبارها قادرة على إطعامهم وتغذية الجموح والشوق إلى التمرد فى داخلهم..
ومن هؤلاء انتقلت العدوَى إلى أهاليهم، فصرنا نرى عائلات محترمة تشد الرحال فى المساء لتقضى السهرة على رصيف قذر فى حارة طافحة بالمجارى ليحظوا بشرف الذهاب للمطعم الشهير ويتناولوا الطعام من أيادٍ لا يغسلها أصحابها حتى بعد دخولهم الحمّام! ولعل من أسباب تزايد شهرة هذه الأماكن وضخ المزيد من المعجبين إليها أن بعض الفنانين ولاعبى كرة القدم أصبحت هذه الأماكن هى مطاعمهم المفضلة، وبعد أن كانت ليلى مراد وأنور وجدى وفريد شوقى وهدى سلطان وصالح سليم وعصام بهيج يرتادون المطاعم النظيفة التى يديرها محترمون، سواء كانوا أجانب أو مصريين، فإن غياب التعليم وشيوع التفاخر بالجهل قد دفعا نجوم الزمن الحالى إلى ادعاء البساطة بأخذ الصور فى الحوارى القذرة بصحبة أصحاب المطاعم وصبيانهم!.
وما يثير الدهشة فى المسألة أن أى ربة بيت مصرية تستطيع عمل الملوخية بالطشة الشهية أفضل من أى مطعم من هؤلاء، كذلك تستطيع أى أم أن تطبخ الكوارع والممبار والسجق وطواجن البامية وورقة اللحمة والحواوشى خيرا من طهاة الرصيف أصحاب المناظر المفزعة الذين يعطسون ويسعلون فى الطبيخ الذى يطهونه. لن أتحدث عن نوع الحيوان الذى يطهون لحمه، لأن هذا لن يفرق مع زبائن لا تسترعى انتباههم السجائر المشتعلة فى يد العاملين، ولا شىء يحملهم على الشعور بالقرف من أماكن لا تعرف ألف باء النظافة. أنا أعرف بحكم الخبرة والتجربة أن هذه الظاهرة عبارة عن موضة أو موجة ستعبر، وسوف يتخطاها الناس ليتعلقوا بموضة جديدة، فهذه هى سُنة الحياة، لكن ما يشغلنى أنها قد طالت بأكثر مما ينبغى ومازالت تحصل على وقود يومى يطيل من عمرها، وهذا الوقود يتمثل فى تدنى الذوق وشيوع ثقافة الاستمتاع الغليظ المخلوط بالتدين الذى لا يرفع من وعى الناس ولا إحساسهم بالجمال، وإنما يزيدهم وكسة على وكسة!