بقلم أسامة غريب
يتردد دائماً أن معدلات الانتحار فى بلاد الشمال مثل السويد والنرويج وأيسلندا هى أعلى منها بالنسبة للبلاد الأخرى، ويعزون ذلك إلى التقدم والرفاهية التى أصابت الناس بالملل وجعلتهم يفضلون الموت على الحياة. ورغم وجود قدر من الصحة فى هذا الكلام إلا أننى فى واقع الأمر أتصور أن معدلات الانتحار فى بلاد مثل سوريا والعراق واليمن ومصر والسعودية والأردن هى أكثر بكثير، بسبب البؤس والفقر والقهر والتعاسة والواقع المزرى، ولا يمكن تصور أن الرفاهية تؤدى إلى قتل الناس أنفسهم، بينما التعذيب والظلم وقهر النساء والاختفاء القسرى تؤدى إلى التمسك بالحياة والتشبث بتلابيبها!. الفرق بين بلادنا وبلاد الشمال أن إحصائياتهم سليمة وصادقة، أما عندنا ففى بعض البلاد العربية ممنوع وجود صفحة للحوادث والجرائم بالصحف لأن هذا يسىء إلى سمعة البلاد! وبالتالى لا يمكن معرفة أى إحصاء دقيق لعدد المنتحرين الذين فضلوا الرحيل عن البقاء فى بلاد واعدة بالشقاء على الدوام.
وباعتبارى قد عشت سنوات فى واحدة من بلاد الشمال (كندا)، يمكننى أن أنحّى جانباً مسألة الانتحار وأتحدث عن ظاهرة الحزن. فى هذه البلاد حيث الشتاء الجليدى الطويل يكسو الحياة لثمانية أشهر على الأقل من العام، مع إحاطة اللون الأبيض بالإنسان طوال الوقت، يمكن تفهّم أن يصاب الإنسان بشىء من الاكتئاب نتيجة افتقاده الشمس والدفء الطبيعى وتفتح الزهور ونور الإشراق والملابس الملونة. إن الملابس الثقيلة كالمعاطف والكوفيات والطواقى وأحذية الجليد تثقل كاهل من يرتديها وتحتاج جهداً فى لبسها وفى انتزاعها، كما تفرض الحياة على الإنسان البقاء بالداخل معظم الوقت، حيث إن البقاء بالخارج قد يعرضه لقرصة برد تنتهى بقطع أذنه أو بتر أحد أطرافه!. لكل هذا فإن شيئاً من الحزن تجده يغلف الشخصية المنتمية لبلاد الشمال الباردة، وربما أن هذا الحزن يظهر على شكل حنان ورحمة تُميز الناس هناك، فمعظم جمعيات ومؤسسات حقوق الإنسان التى ترعى اللاجئين وتدافع عن المظلومين تجدها فى هذه البلاد أكثر من وجودها فى البلاد الغربية الأخرى، رغم ديمقراطيتها، ولعلنا لم نسمع أبداً أن الدنمارك أو فنلندا ردّت لاجئاً أو رفضت إجارة مستغيث أو نصرة ملهوف. الحزن الشفيف والتعاطف هو ما لمسته فى البشر فى هذه البلاد، وطبيعى أن من بينهم من لا يستطيعون احتمال حياة بها من يلقى براميل متفجرة على جزء من شعبه، وبها من يخون أهله ويعرضهم للهلاك وهو يبتسم.
نوع آخر من الحزن شاهدته فى احتفاليات عاشوراء فى بغداد والكويت والبحرين.. رأيت حزناً أبدياً صافياً، حزناً نبيلاً لا نهاية له يأسى الناس فيه على الإمام الحسين الذى غدر به السفاحون من بنى أمية.. حدث هذا منذ أربعة عشر قرناً ومع ذلك لا يريدون أن ينسوا حتى لا يكون النسيان بحراً يفصلهم عن آل البيت فتضيع منهم البركة ويتوه منهم الطريق.
الحزن أصناف وأنواع، وأشد بنى الإنسان شقاءً هو من لا يحترم حزن الناس ويتخذه سبيلاً للسخرية من آلامهم والهزء بما يكويهم.