بقلم معتز بالله عبد الفتاح
البنية الإنسانية لا تقل أهمية عن البنية التحتية، نحن بحاجة لرئيس وزراء آخر، ليس بدلاً من ولكن، يضاف لرئيس الوزراء الحالى، ولنعين رئيس وزراء آخر للتنمية الإنسانية، ومصدر كلامى هذا استمرار نفس نهج ما قبل ٢٥ يناير عند المسئولين المصريين الذين يتحدثون بنفس منطق حكومات الرئيس مبارك فى خطاباته المختلفة عن زيادة الصادرات وتضاعف عدد التليفونات، وتحسن أحوال الصرف الصحى، واطراد أعداد الكبارى والأنفاق، وعن الإنجازات فى مجال البنية التحتية. إن التنمية الحقيقية فى مصر تجعلنا بحاجة لرئيس وزراء آخر يبنى الإنسان المصرى بالإضافة لرئيس الوزراء الحالى الذى ينشغل أكثر بالبنية التحتية، فالقضية ليست فى إدارة أبنية مصر، المعضلة هى تنمية وتثقيف وتوعية الإنسان المصرى.
إن الأمم المتحدة أطلقت على عملية بناء هذا المناخ الملائم للتنمية الحقيقية تعبير (Building Trust in Government) بناء الثقة فى الحكومة، وحتى يحدث هذا فأنا أقترح أن يكون هناك رئيسان للحكومة: واحد يهتم ببناء الإنسان المصرى والآخر يهتم ببناء الكبارى وحفر الأنفاق ومد التليفونات بدلاً من حالة التقدم المظهرى الذى يخفى وراءه الكثير من مظاهر التخلف الهيكلى التى نعيشها كما يقول سمير أمين، أحدهما يهتم بتعليم المصريين ألا يسرفوا فى استخدام المياه والآخر يهتم بمد مواسير المياه والمجارى تحت الأرض، واحد يعلم المصريين ألا يلقوا الزبالة فى الشارع، والآخر يتعاقد مع شركات إسبانية وفرنسية كى ترفع الزبالة من الأماكن المخصصة لها، واحد يقبض على مثيرى الفتنة الطائفية والآخر يربى الإنسان المصرى على أن «الدين لله والوطن للجميع»، وبالمناسبة لن ينجح الثانى إلا إذا نجح الأول، ولن ينجح الأول إلا إذا نجح الثانى.
فلا انفصال بين زيادة أعداد السيارات فى الشوارع وارتفاع كفاءة قائديها، فالقضية الملحة ليست فى المظاهر الشكلية للتقدم مثل وجود تليفونات أكثر، ولكن فيم يتحدث المصريون؟ وما القضايا التى تشغلهم؟ كما أنه من المنطقى أن يكون عدد الكبارى فى اطراد، لكن ما معنى أن يكون ضحايا المصريين من حوادث الطرق فى السنة أكثر من ضحايا الفلسطينيين من القصف الإسرائيلى المتكرر؟! ولا شك أن المرء يكون سعيداً حين يفتح الحنفية ويجد ماء متى تيسر له ذلك، لكن المعضلة أن المصريين يمكن أن يفتحوا الحنفية ولا يكترثون بإغلاقها.
نحن نبنى عدداً أكبر من المدارس لنواجه الزيادة السكانية، لكن سؤالى: لماذا لا نبنى الإنسان المصرى الذى يكافح هو بذاته الزيادة السكانية ويساهم هو بذاته فى بناء المدارس؟ الحكومة تعتقد أن الشعب المصرى هو المنافس الذى تتحرك ضده لأنها لم تنجح أن تكسبه فى صفها، وأن تجعل قضاياها قضيته، من غير المهم أن يعمل الوزير أضعاف ما يعمل من وجهة نظرى، لكن المهارة الحقيقية؛ كيف ينجح الوزير فى أن يجعل العاملين فى وزارته يعملون أضعاف ما يعملون ويعطى هو لهم القدوة؟ هذه طريقة مختلفة فى التفكير عن تلك السائدة عند السادة المسئولين، فهم كحال الأب الذى يقوم بإعادة ترتيب المنزل مع كل مرة يقدم فيها الأطفال على العبث بمكوناته، لأن لديهم سلوكيات خاطئة، وغالباً ما يلعنهم فى سره لأنهم غير ملتزمين بما يراه صواباً، ماذا لو نجح الأب فى تربية أولاده على أن يكونوا مسئولين عن أفعالهم على نحو يجعلهم لا يعبثون بلا إحساس بالمسئولية أو يصلحون ما يفسدون؟ ومن هنا تأتى أهمية التربية على المواطنة، أى التربية على قيم المسئولية المشتركة بين الحاكم والمحكوم. وكى أوضح ما أقصد سأناقش أمثلة تستدعيها ذاكرتى عساها توضح فكرتى:
1- قال أحد مدربى كرة القدم السابقين، ولا أتذكر اسمه، بعد أن فر من تدريب أحد الناديين الكبيرين عن مصر: «عندكم أحدث عربيات العالم، لكنكم ما بتعرفوش تسوقوا لأنكم ما عندكم أخلاقيات القيادة السليمة»، حقاً مصر فيها سيارات أكثر لكن فيها حوادث أكثر وعادم سيارات أكثر وزحمة أكثر واختناقات مرورية أكثر، لأننا لم نهتم بتربية الإنسان الذى هو فى مقعد القيادة على أن يعرف كيف يقود سيارته، إن الاعتماد على الاستدلال بالتقدم باستخدام أرقام البنية التحتية يعنى خداع بسطاء العقول، وهؤلاء نحن لسنا بحاجة لخداعهم لأنهم أقيلوا فاستقالوا فخرجوا من الحسبة السياسية بالفعل.
3- فى واحدة من ندوات كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وكنت حينذاك معيداً فى الكلية، استضافت الكلية وزير التعليم الذى تحدث عن جهود الوزارة فى بناء المدارس ومواجهة الدروس الخصوصية وإيفاد المدرسين للخارج، وقد طلبت الكلمة للتعليق. وكان مما قلت إن المهمة الأولى لوزارة التربية والتعليم هى أن تخرج لنا طالباً يحب مصر أولاً، حريصاً عليها ومحباً لمصلحتها مقتنعاً بأن «الأفضل فى أى مجال هو الأولى بأن يتقدم فيه» من أجل خدمة الوطن، لكن ماذا تستفيد مصر من أن يخرج من مدارسها عباقرة فى الكيمياء والفيزياء وغيرهما ويهرولون مسرعين خارجها أول ما تأتيهم فرصة للرحيل عنها غير مهتمين حتى أن يرتبطوا بها أو أن يحرصوا على نقل ما تعلموه فى الخارج إليها؟ فما كان من إجابة، لأن مسئوليته كما فهمها ليست فى الاستفادة من الإنسان المصرى، وإنما فى بناء المدارس ومحاربة الدروس الخصوصية دون النفاذ لما هو أكثر أهمية وهو تغيير نمط تفكير الطالب، بل والمواطن المصرى.
إن ثقافة الإنسان المصرى ليست معطى مثل الموقع الجغرافى، لا نملك حيالها إلا التسليم بها والتعايش معها، وإنما هى واحدة من أدوات التقدم إن استطعنا أن نعيد تشكيلها وتوجيهها، أو واحدة من أسباب التخلف إن جعلنا منها عذراً للاهتمام ببناء المدارس دون الاهتمام ببناء الطالب، بتعبيد الطرق دون الاهتمام بتربية قائد السيارة على قيادتها، بمد مواسير المياه دون تربية المواطن على حسن استغلاله لها، إن المصرى مستقيل من الحياة العامة ينظر لمصر كبقرة حلوب، الأشطر يحلبها أكثر.
قل لى كم ونوعية البرامج الموجهة للتنمية الإنسانية، أقل لك إن كنا نسير على الطريق الصحيح أم لا.