كيف سيُكتب تاريخنا
آخر تحديث GMT 10:21:46
 فلسطين اليوم -

كيف سيُكتب تاريخنا؟

 فلسطين اليوم -

كيف سيُكتب تاريخنا

خالد الحروب

كيف سُتكتب في المُستقبل حقبة التاريخ المعاصر التي نحياها الآن، وأي الروايات ستكون هي السائدة؟ إذا كنا نحن الناس الذين نعيش هذه الحقبة ونتابعها يومياً، وننعم بوسائل إعلام وتغطيات لم تكن موجودة سابقاً، نقرأ الشيء ونقيضه، ونرى «حقائق» ثم نقرأ «تفسيرات» لا علاقة ببعضها البعض، وكأن «الحقائق» تحدث في كوكب آخر.
لنتخيل مثلا أن طالبا يدرس التاريخ في الجامعة سنة 2200 يريد ان ينجز بحثا عن التحولات الاقليمية في المنطقة العربية بين سنوات 2010 و2020، فماذا سيجد على رفوف المكتبة (... الالكترونية غالبا!). سوف يجد كتب «تاريخ» متنوعة المنطلقات يركز كل منها على جانب او جوانب مُختارة من الاحداث التي وقعت في تلك الفترة، ويخلص كل منها الى خلاصات مختلفة.
سيجد كتاب المؤرخ الشهير «سين» وفيه سيقرأ ان حقبة 2010 - 2020 شهدت قيام حرب كونية على مجموعة الدول والحركات التي كانت تقود «المقاومة»، وان تلك الحرب تم التمهيد لها بما سُمي حينها «الربيع العربي»، والذي كان الهدف منه، كما تم «انكشاف» ذلك لاحقاً، اسقاط نظام المقاومة في سورية، ومحاصرة نظام المقاومة في إيران. سوف يحشد المؤرخ فلان شواهد و»حقائق» عديدة، اهمها انبعاث «الحركات التكفيرية» التي استهدفت الشيعة وأرادت اثارة حرب طائفية اقليمية، كما يسلط الضوء على تفسيرات مُنتقاة تؤيد وتدعم وجهة نظره.
وبالتأكيد سوف يكون من ضمن تلك الشواهد، مثلا، اقتباسات كثيرة لمسؤولين اسرائيليين تشير إلى خطر إيران عليها وبكونها تمثل تهديدا وجودياً، بما يُثبت ان اطروحة الحرب الكونية التي يتبناها كتاب المؤرخ فلان كانت فعلا بهدف القضاء على «محور المقاومة» وحماية اسرائيل.
في نفس رفوف المكتبة الالكترونية سوف يتناول طالبنا كتاباً آخر للمؤرخ «صاد»، وفيه سوف يقرأ «تأريخا» وتوصيفا مناقضا تماماً لما قرأه في الكتاب الاول.
هنا سوف يقرأ بأن العقد المرير والدامي من السنين الذي يدرسه تميز بأنه عقد تمدد النفوذ الإيراني في المنطقة، وسيطرته المباشرة او غير المباشرة على اكثر من بلد عربي. سوف يقرأ طالبنا «ادلة وشواهد» على ذلك النفوذ منها اخضاع العراق وسورية ولبنان تحت السيطرة الايرانية، ثم تمدد ايران نحو الجزيرة العربية واليمن، اضافة لانتشار نفوذها خارج المنطقة (اي في افغانستان وباكستان وافريقيا). وفي نفس الكتاب سوف يقرأ الطالب فصلا عن «طائفية ايران» وإثارتها للنزاعات الدينية والطائفية، وفصلا كاملا مُخصصا للتفسير الديني الشيعي لهذا التمدد وعلاقته بقدوم المهدي المنتظر، وبأن انتشار النفوذ وبروز القوة الإيرانية هو تمهيد لذلك القدوم. وفي هذا الفصل سوف يندهش الطالب من قراءة بعض المقولات المنسوبة إلى قياديين ايرانيين تقول إن الاجهزة الاستخباراتية للولايات المتحدة، الشيطان الاكبر، والغرب عموماً، تتربص في المهدي المنتظر وعندها خطط محكمة لاعتقاله وخطفه فور ظهوره لقطع الطريق على الانتصار الكوني لإيران.
في هذا الكتاب في نفس الوقت هناك فصول اخرى في الكتاب «تثبت» علاقة تواطؤ مريبة بين ايران من جهة واميركا واسرائيل من جهة ثالثة تقوم على تقاسم وظيفي واقعي على الارض، مقابل عداء لفظي واعلامي. ويستدل المؤرخ «صاد» على ذلك بعدم حدوث اي صدام عسكري او معركة مهما كانت صغيرة بين ايران واسرائيل.
ثم ينتقل طالبنا إلى كتاب لمؤرخ آخر هو المؤرخ «عين»، المعروف بتوجهاته الليبرالية والديموقراطية، وفي هذا الكتاب هناك مقاربة تاريخية اخرى.
يقول المؤرخ «عين» ان تلك السنوات شهدت تحرك عدد من الشعوب العربية ضد الاستبداد والدكتاتورية وبحثا عن الحرية والمشاركة السياسية، وان ما حدث من حروب اهلية وتدخلات خارجية دامية كان هدفه القضاء المُبكر على حركة الدمقرطة التي بدأت بشائرها «بما سُمي آنذاك الربيع العربي».
يسرد المؤرخ «عين» احداثا وتفصيلات كثيرة تبدأ من تراخي الدعم العالمي والغربي تحديدا لحركات الديموقراطية العربية، إلى تجذر «الدولة العميقة» في المنطقة العربية، وصولاً إلى دور الحركات الاسلاموية وتطرفها في إجهاض التحول الديموقراطي واختطاف الربيع العربي وإرجاع الامور الى المربع الاول.
يحتار طالبنا المسكين فينتقل الى كتاب المؤرخ «كاف»، المعروف بميوله الاسلامية.
وهنا يقرأ مقاربة وتاريخا مختلفا تماماً. فالمؤرخ «كاف» يرى أن حقبة سنوات 2010 - 2020 كانت اللحظة التاريخية التي استيقظت فيها الشعوب المسلمة في المنطقة وقررت بالصوت الملآن ان «الاسلام هو الحل»، بدليل ان كل الانتخابات التي حصلت في البلدان التي حدث فيها «ما سُمي آنذاك الربيع العربي» قد فازت بها الحركات الاسلامية، وان العالم ما ان رأى ذلك حتى اصابه الرعب من نهوض المارد الاسلامي، فعمل مباشرة على الحشد والجمع والقيام بحرب كونية مباشرة وغير مباشرة على الحركات الاسلامية (السنية تحديداً، بحسب المؤرخ «كاف»)، لتدمير «المشروع الحضاري» الذي جاءت التيارات الاسلامية.
وفي هذا الكتاب يقرأ طالبنا فصولاً تشير إلى التآمر الذي قامت به «إيران الصفوية» ضد الربيع العربي والحركات القائدة فيه.
يتناول طالبنا المحتار كتابا لمؤرخ آخر هو المؤرخ «ميم» فيقرأ تاريخا مختلفا تماما عن نفس الحقبة. يقرأ ان كل «ما سُمي آنذاك الربيع العربي» لم يكن إلا مخططا اميركيا غربيا لتجديد السيطرة على المنطقة. وقد عملت الولايات المتحدة على تدريب مجموعات من شباب «الانترنت» واستضافتهم في ولاياتها ودربتهم على القيام بثورات عن طريق «الفيس بوك» و»تويتر» (وهي آليات التواصل الاجتماعي الإعلامي في ذلك الزمن، والتي توقف الناس عن استخدامها منذ اكثر من قرن ونصف!).
وكان هدف الولايات المتحدة والغرب هو تنصيب حكومات شبابية جديدة في المنطقة لكن موالية لها، وخاضعة بالتمام.
وفي هذا الكتاب هناك فصول تورد «أدلة مدهشة» على الدورات التدريبية وبالاسماء لمن تزعموا الانتفاضات الشعبية وكانوا قد تدربوا في الغرب.
هناك كتب اخرى كثيرة تؤرخ لنفس المرحلة، لكن طالبنا العزيز طاله اليأس من أن يفهم شيئا من هذه الكتب الانتقائية والتي كل منها يرى بعين واحدة. ذلك كله للقول إن كتابة التاريخ وحتى الراهن والمعاصر هي اصعب انواع الكتابة.
انها كتابة تعتمد على ميول المؤرخ اولاً، وعلى انتقائه للاحداث ثانيا، وتفسيره لها ثالثا، ومقدار الاهمية التي يمنحها لهذا الحدث او ذاك، او لهذا الفرد او ذاك. وذلك كله للقول ايضا ان التأريخ الموضوعي الكامل اقرب الى الوهم والاستحالة.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

كيف سيُكتب تاريخنا كيف سيُكتب تاريخنا



GMT 06:12 2025 الأربعاء ,15 كانون الثاني / يناير

ليلة الفقر في موسكو

GMT 05:56 2025 الأربعاء ,15 كانون الثاني / يناير

نكسة كبرى للثقافة الليبرالية

GMT 05:54 2025 الأربعاء ,15 كانون الثاني / يناير

الطريق إلى المشروع العربي؟!

GMT 05:52 2025 الأربعاء ,15 كانون الثاني / يناير

ليبيا: اعترافات الوزيرة وصمت الحكومة

GMT 05:50 2025 الأربعاء ,15 كانون الثاني / يناير

الديون الأميركية والأزمات المالية العالمية

GMT 05:45 2025 الأربعاء ,15 كانون الثاني / يناير

حيرة السوريين !!

GMT 05:42 2025 الأربعاء ,15 كانون الثاني / يناير

للسياسة تاريخ في لبنان

GMT 06:01 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

علاج جيني مُبتكر يعيد السمع والرؤية لمرضى متلازمة آشر 1F

GMT 08:57 2024 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

كيا EV3 تفوز بجائزة أفضل كروس أوفر في حفل جوائز Top Gear لعام 2024

GMT 22:14 2019 الثلاثاء ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

تعرف على فيلم افتتاح مهرجان "القاهرة السينمائي"

GMT 11:56 2019 السبت ,13 تموز / يوليو

كبرى الشركات في قطر تُعلن عن وظائف شاغرة

GMT 10:32 2020 الخميس ,23 تموز / يوليو

انخفاض قيمة صادرات النفط السعودية

GMT 12:35 2020 الجمعة ,19 حزيران / يونيو

آداب الاستئذان للأطفال
 
palestinetoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

palestinetoday palestinetoday palestinetoday palestinetoday