خالد الحروب
كأن ليس ثمة مكان يليق ب «أم العلوم» في عالم عرب اليوم، لا في المدارس ولا الجامعات، وكذا في دور النشر، او الصحف، فضلا عن الاعلام المهجوس بسرعة التغطية والركض وراء الربح. «ام العلوم» لا مكان يليق بها في عالم الاصوليات والطوائف، لا في كتابات التحريض والقتل، ولا في خطابات الإقصاء والفصم والفصل، فضلا عن بيانات زعماء التطرف وعرابيه سواء أقادوا تنظيمات ام دول. في زمن قريب لكنه شبه انقضى في هذه المنطقة انكب باحثوها ورواد فكرها على الفلسفة وأموها بكونها نقطة الانطلاق. ذهبوا بعيدا وقرأوا ودرسوا ونقدوا النصوص المؤسسة فيها من زمن سقراط ومن سبقه، ثم افلاطون وارسطو، وتوقفوا ملياً عن التفلسف الاسلامي وعلاقته بالفلسفة اليونانية، ثم نقدوا الفلسفة الغربية بإهتمام وتقدير. كانت اسئلة التنوير والتحديث والنهضة تقع في قلب هذا الاهتمام، وفرد كثيرون منهم فصول كتب كثيرة في مواجهة السؤال الثقيل: لماذا تخلفنا وتقدم الآخرون؟ لا يعني ذلك ان كل ما كان وما يجب ان يُدرس قد دُرس او انه ايضا اختبر بكامل الموضوعية والنزاهة. كانت هناك انحيازات، وكانت هناك قفزات في «التغطية» اهمها اهمال الفلسفات التي قامت وتطورت وتأملت في جغرافيات بعيدة عن الغرب، كالصينية والهندية والافريقية، والإنجرار إلى ركاب المركزية الغربية في التفلسف: قبولا او نقداً. لكن وبكل الاحوال احتل اهتمام مفكري العرب ومثقفيهم بالفلسفة في العصر الحديث ومنذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر موقعا مركزيا في سياق انشغالهم بالنهضة والنهوض. خبا ذلك الاهتمام ومُنتجه الفكري والفلسفي في العقود الاخيرة، حيث استبيح المشهد الفكري والثقافي من قبل ثقافات سطحية واصوليات متوترة جلها يحوم حول نفي الاخر والإجهاز عليه، وليس التأمل في الجذر الإنساني المشترك، اوالبحث في المآلات الغامضة والاسئلة الكبيرة.
في سياق غافل كهذا يُلفت الاهتمام اعادة اصدار كتابين من الكتب العربية الكلاسيكية الحديثة في الفلسفة، ضمن سلسلة «طي الذاكرة» الصادرة عن المركز العربي للابحاث في الدوحة، هما تاريخ فلاسفة الاسلام في المشرق والمغرب» للمثقف والمتفلسف المصري محمد لطفي جمعة، والذي صدر في اول طبعة له سنة 1927، والثاني هو»العرب واليونان واوروبا: قراءة في الفلسفة»، الذي صدرت طبعته الاولى سنة 1944. يتيح صدور هذين الكتابين فرصة جديدة للإنتصار للفلسفة وللتوكيد على ضرورة تدريسها وادراجها في المناهج التعليمية وإعادة اعتبار «اموميتها» للعلوم.
من دون ان يتحلى الطالب والمعلم بقدر عميق من الفلسفة فإنهما يظلان يجدفان في نهر لا ماء فيه. وربما هذا ما ما كان قد انتبه اليه المؤرخ والمثقف اللبناني الكلاسيكي الكبير عمر فروخ في كتابه المذكور. فروخ اولى اهتماما مركزيا لكتابة المناهج المدرسية الثانوية وغيرها، لأنه كان على يقين كبير بأهمية الفلسفة في تكوين النشء. بعد كتابه عن الفلسفة اليونانية ابحر بعيدا في الفلسفة العربية وكتب «عبقرية العرب في العلم والفلسفة» في اواسط الاربعينات من القرن الماضي، والذي يقول عنه رضوان السيد انه «كتاب صغير ... تضخم عبر ثلاثة عقود حتى وقع في آخر نشراته في سبعمئة صفحة». ولا يوازي هذا الكتاب في اهميته الموسوعية الا السفر الثاني الذي سطره فروخ حول «تاريخ الفكر العربي الى ايام ابن خلدون».
يكتب فروخ كيف انتقلت الفلسفة اليونانية الى العربية عن طريق نصارى الشام الذين كانوا قد نقلوها اولا الى السريانية، لعدم معرفتهم بالعربية، ثم من السريانية ترجمت عبر غيرهم الى العربية. ويشير الى ان هذه المسيرة عبر عدة لغات ومتأثرة بعدة نوازع انتجت ترجمات عربية غير دقيقة للفلسفة اليونانية، وبعضها كان بسبب حمية النصارى الذين اما حذفوا ما لم يتناسب مع الدين من وجهة نظرتهم، او حرفوه. كان لا بد من مضي قرون عدة حتى يأتي جيل آخر من الفلاسفة العرب ويطلعوا على الترجمات وينقحوها ويقربوها من الاصل اليوناني. ثم ينخرط فروخ في الجدل التقليدي حول اصلانية الفلسفة العربية ام تقليدها ونسخها لما جاء في سابقتها اليونانية، وينكر زعم ارنست رينان الذي قال ان الفلسفة العربية هي الفلسفة اليونانية مكتوبة بأحرف عربية. ينتفض فروخ ويقول «لا شك في ان هذا زعم تافه. إذا كان رينان يعني ان العرب لم يعالجوا من الامور الا ما عالجه اليونان، فيحق لنا حينئذ ان نقول: إن الفلسفة الاوروبية ليست الا الفلسفة اليونانية مكتوبة بالحرف اللاتيني، وان الفلسفة اليونانية نفسها فلسفة مصرية او بابلية مكتوبة بالحرف الاغريقي. إن الحضارات والثقافات تطور، واعتماد حضارة او ثقافة على حضارة او ثقافة سابقة لا ينزع عنها قيمتها ولا قدر الرسالة التي ادتها».
اما كتاب محمد لطفي جمعه الذي درس في الاسكندرية ولبنان وفرنسا فيبحث في افكار وفلسفات وايضاحات اثني عشر فيلسوفا يمكن اعتبارهم اهم فلاسفة الاسلام، وهم: الكندي، الفارابي، ابن سينا، الغزالي، ابن باجه، ابن طفيل، ابن رشد، ابن خلدون، اخوان الصفا، ابن الهيثم، محي الدين بن عربي، ابن مسكويه. وهم قد رافقوا المؤلف اكثر من عشرين سنة كما يذكر، وصاروا اصدقاءه الحميمين، بل ويتخيلهم حتى بلباسهم « ... كل بالقباء او المرقعة او المسو او الدراعة او الجبة التي تليق به ... (وهم) الذين عاشوا وتأملوا وفسروا الكون، وعللوا الحوادث قبل كانت، ونيتشه، وشوبنهور، وسبنسر، وستوارت ميل، واوجست كومت، ورينان».
ليست هذه المطالعة الموجزة مراجعة نقدية للكتابين بل هي تعريف بهما في وارد محاولة التشديد على اهيمة استعادة الدرس الفلسفي في المشهد العربي التعليمي والتنظيري والسياسي. لكن يجوز ختمها بإشارة لطفي جمعة التي يقول فيها انه لولا الجهد العربي والاسلامي الريادي والمركزي لضاعت تلك العلوم. ويقول مخاطبا اولئك الفلاسفة: «... انه لولاكم ايها الفلاسفة الاعزة! من الكندي، الى ابن رشد، لم يكن لفيلسوف اوروبي حديث ان يُظهر في عالم الوجود، وانكم انتم الذين حفظتم تلك الشعلة المُقدسة التي خلفها سقراط وافلاطون وارسطو، في مغاور الماضي السحيق، وزودتموها نارا حتى اسلمتموها مضيئة وهاجة إلى فلاسفة اوروبا المحدثين، وكنتم لتلك الشعلة الإلهية كراماً حافظين».