خالد الحروب
القوة التي تفتقد إلى عقل مفكر يسيطر عليها ويقودها تصبح قائدة ذاتها، وتتحول إلى ثور يتصف بثلاث صفات: أعمى، وأهوج، وممسوس بالجنون.
لنتخيل حركة وطاقة هذا الثور صاحب هذه السمات وما هي النتائج التي تخلفها حركته الهوجاء على الأرض وفي المحيط الذي يجاوره؟
«ثورنا» الأشم يتفجر طاقة، يراكمها بلا انقطاع ولا يعرف كيف يصرفها، ولا يدري بطبيعة الحال كيف يحولها إلى قوة بناء.
لهذا، نراه يركض ويجري على الدوام من دون توقف، يترنح يمينا ويسارا ويدوس على كل ما يأتي في طريقه غير عابئ بـ «المُداس» وفي ما إن كان صديقا أم عدواً.
في الحقيقة لا يهتم الثور الهائج أصلا بإيجاد دوائر أصدقاء أو محايدين.
أحد جوانب العبقرية الغبية في ممارسته اليومية تكمن أساسا في تكثير الأعداء ومضاعفة اعدادهم وكأن هذا ما يعتاش عليه.
الثور الأهوج يورط كل السذج الذين يظنون أن بإمكانهم الاستفادة من طاقته الرعناء وتوظيفها ولو عن بعد.
انعطافاته الحادة وجنونه المركب ومفاجآته المدهشة التي لا ينطبق عليها منطق أو عقل أو تنبؤ، تهزأ بأي طرف يتورط في الرهان عليه.
هل يمكن الرهان على ثور أعمى وأرعن ومجنون، ثقيل الوطأة بالغ الوزن، لكن في نفس الوقت لا يكف عن الحركة في كل الاتجاهات من دون هدف؟
داعش اليوم هي أحدث طبعة من فصيلة الثيران العمياء التي إن حلت في منطقة ما جلبت عليها الوباء والدمار والدماء. أول من تدوسه هذه الثيران هم من تزعم أو تظن بأنها تدافع عنهم.
مثلاً، البلاء الذي تجلبه داعش اليوم لكل المناطق السنية وللسنة الذين تزعم أنها تريد أن تحميهم وتقيم خلافة على رأسهم ليس مسبوقاً.
ينطلق عناصرها مُقادين بالغباء ليس إلا فيحتلون هذه المحافظة السنية أو تلك في العراق أو غيره، فيستفزون الحكومة (التي يعادونها لأنها طائفية ويتهمونها بالعداء للسنة) فيدفعونها للتحرك بسرعة كي تثبت أنها ذات السيادة على كل المحافظات، فتسيطر هي ومليشياتها على مناطق السنة التي حررتها داعش ...(من من)؟ بسبب العماء المطبق لا يبصر ثور داعش من هو الصديق ومن هو العدو: كل الذين يحيطون بالثور الأعمى والهائج هم أعداء له، وهو لا يملك وسيلة للتعامل معهم سوى البطش الدموي وجلب الموت لهم. قوائم الثيران التي اندرجت في ثلاثية العماء والرعونة والجنون طويلة ودائمة التجدد.
القرن العشرون وحده يحفل بقائمة مذهلة تضم عشرات غير هتلر وستالين وبول بوت وعيدي امين وهيلا سيلاسي وموبوتو سيسيكو.
عربيا يحتل صدام حسين الموقع الأول ممن امتلكوا القوة لكنهم اتصفوا بالعماء المطلق الذي دمرهم ودمر بلدهم ومن جاورهم.
نظرية الثور الهائج هي التي تلتقط حال داعش اليوم، كما التقطت حال القوة المنفلتة من اي عقل او تفكير في تجارب تتجاوز العد في تاريخ البشرية.
داعش تخلف القاعدة التي اندرجت في نفس المسار والنظرية، وخبطت في كل الاتجاهات وتسببت في حروب افغانستان والعراق.
تنظيمات الثور الهائج الداعشية والقاعدية تهيج اليوم بتفاهة بالغة وتنشر الإرهاب البشع باسم الدين، وهي تدمره وتدمر صورته وتدمر أتباعه وتحاصرهم بالعنصريات وردود الفعل في كل مكان.
في هذه الأيام الدامية وحدها قتل الثور الداعشي الهائج ابرياء ومدنيين في مساجد مسلمين في السعودية والكويت، وقتل ابرياء في العراق وفي ليبيا وتونس ونيجيريا، وهدد بتحرير «غزة من حماس» (لا إسرائيل)، وهدد مسيحيي القدس بأن يغادروها (ولم يهدد اسرائيل التي تحتلها!).
هناك مسوغات كثيرة يسوقها الثور الهائج ولا يزال لتبرير هيجانه وولوغه في الدم البريء، الوحيد منها الذي يستحق النقاش والتوقف عنده، رغم انه اقلها استخداما من قبل الثور الهائج، هو التدخل الغربي المستمر في المنطقة وما يتسبب عنه.
وهنا يحاول اكثرنا ان يفهم هيجان الثور الهائج ويربطه بكل الاسباب والدوافع التي نعرفها جميعا ولا جدال فيها، بدءا بتأسيس اسرائيل وتواصل احتلالها، واستمرارا مع توحش السياسة الغربية وانحيازاتها للدكتاتورية والمصالح على حساب العدالة والقيم.
هذه التدخلات الاجنبية والغربية خصوصا هي سمة من سمات علاقة الخارج مع المنطقة طيلة القرنين الماضيين تقريباً، ومع انها انتجت كل انواع ردود الفعل النبيلة في المقاومة والرفض، إلا انها لم تنتج ثيرانا هوجاء كما هي الحال الآن.
ظلت المقاومات الشعبية التي انتجتها الشعوب بسبب عدالة قضاياها مرتبطة بجوهر العدالة نفسها، ولم توجه مقاومتها إلى ما من شأنه الانتقاص من تلك العدالة.
لم تستهدف السواح المدنيين الغربيين ولا الافارقة الذين صاروا هدفا غريبا للثور الهائج.
كان ثمة ادراك عميق بأنه لا يصح ان تستخدم وحشية العدو كمسوغ لإطلاق وحشية مشابهة، فضلا عن ان تكون ابشع، وان تتوجه وحشية رد الفعل إلى اناس ابرياء ومدنيين ليسوا في الصف الأول من القتال. لكن كان ثمة استثناءات وقعت في إغراء استهداف المدنيين كهدف ناعم للضغط على صناع السياسة الكبار واخضاعهم، وتم تجريب هذه الوسيلة.
ففي عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي وقع بعض المنظمات الفلسطينية اليسارية في إغواء «استهداف المصالح الغربية والاسرائيلية المدنية» في كل مكان، وطبقتها عبر بعض عمليات خطف الطائرات او احتجاز المدنيين، بهدف جذب اهتمام العالم إلى عدالة القضية الفلسطينية، ودفعه للاهتمام بها.
كانت الممارسة الفلسطينية جزءا من ممارسات راديكالية عالمية تقودها منظمات أممية (مثل بادر ماينهوف الالمانية، والالوية الحمراء الايطالية، والجيش الاحمر الياباني) ضد الرأسمالية الغربية في تلك الحقبة الزمنية، وتستهدف الإطاحة بها.
شب اليسار الفلسطيني والعالمي عن الطوق وتخلى وغيره عن المراهقة السياسية تلك وتركها لأي ثور هائج جديد يقتحم الساحة!
الثور الجديد كان تيارات التطرف الإسلامي التي تلقفت «الراية» كتلميذ فاشل لا يقرأ التاريخ ولا يفقه السياسة، وهي التيارات التي بقيت تنتج ثورا في كل مرحلة حتى اوصلتنا الى داعش.
واحدة من مشكلات الثور الهائج والاعمى في كل مكان وزمان تكمن في إرادوية صنع التاريخ على هواه، والبداية من حيث بدأ من سبقوه وفشلوا. وذلك كله، في منطقتنا، كأنما يحبسها في قدر محتوم على المجتمعات والبلدان فيه ان تدوام الانخراط في دورات تطوف واحدة تلو الاخرى، تبعا لنوع ولون التيار المتطرف الذي يصحو على نفسه ويكتشف «النضال» أو «الجهاد» ثم يشرع ببلاده مذهلة في تطبيق «مشروعه» الخاص، ضاربا بعرض الحائط كل التجارب الماضية والقريبة وخلاصتها، وكأن التاريخ والعالم والحياة بدأت معه ومع اكتشافاته.