«صباح الخير يا فاطمة»! هكذا كانت عائشة عودة، المعلمة اليافعة في قرية عين يبرود قريباً من رام الله، تبدأ تدريسها حصص الرياضيات عقب اعتقال فاطمة البرناوي وسجنها، وهي أول وأشهر مناضلة فلسطينية سنة 1967، والحكم عليها بالمؤبد. بعدها بسنتين فقط، تعانق عائشة فاطمة في سجن الرملة بعد اعتقالها والحكم عليها، بمؤبدين وعشر سنوات. تهمة الاثنتين القيام بعمليات مسلّحة، كلتاهما تعرضتا لتعذيب فظيع لانتزاع الاعترافات.
لم تكونا وحيدتين سواء في النضال أو الاعتقال، أو نسف البيوت أو التعذيب وانتهاءً بالسجن المؤبد. كان قسم النساء الفلسطينيات في السجن يتّسع عدداً، وضم مئات الأسماء التي صارت نجوماً في سماء المقاومة: رسمية عودة، مريم الشخشير، عفيفة بنورة، تريز هلسة، سامية الطويل وكثيرات كثيرات. صارت شمس صباح الرملة تتسلل إليهن يومياً من النوافذ العلوية الصغيرة لغرف السجن، تلاعب شعورهن وتقول صباح الخير أيتها الشموس. تجربة المناضلات الفلسطينيات في السجون الإسرائيلية فائقة الغنى ومثيرة، وكثير من جوانبها ما زال طي الإهمال، وتحتاج إلى رصد وتوثيق كتابي ودرامي.
عائشة عودة تشتغل على فرد طيات ما تم إهماله وكشفها تحت الضوء: ملحمة من المقاومة والوجع فائقة الفوران بالتاريخ والقصص والوعي. نشرت أخيراً «ثمناً للشمس»، ثالث كتبها، وفيه تسجل تجربة المقاومة في السجن، تجربتها ورفيقاتها في مرحلة استمرار النضال ضد المشروع الاحتلالي داخل السجن. هي لا تحب كلمة «سجينة» أو «أسيرة»، تلفظها وترفضها، كما أرسلت لفدوى طوقان التي بعثت إليها بقصيدة مهداة «إلى السجينة عائشة عودة». تقول عائشة أن سنوات السجن استمرار للنضال بوسائل أخرى، وفي مكان آخر. كانت معاركها الدائمة ضد إدارات السجون نبع «تفاؤلها الثوري» ورفيقاتها، مزّقن الأعلام الإسرائيلية التي أصر السجان على رفعها على أبواب غرفهن لمناسبة «عيد استقلال إسرائيل» إمعاناً في الإذلال. تقوم معركة بين كل حين وحين تنتهي بالضرب والعزل الانفرادي.
يناديها مدير السجن الباطش ليعطيها درساً في استراتيجيات خوض المعارك. يقول لها: إذا أردت خوض معركة، عليك القيام مسبقاً بما يُسمى «تقدير موقف»، وهذا التقدير حول ميزان القوى ينبئك باحتمالات النصر، وبناءً عليها تخوضين المعركة. لكن عندما يكون احتمال النصر صفراً مطلقاً، فإن خوضك الحرب ليس سوى انتحار. عائشة لم تنصت الى منطق موازين القوى، وكانت تناكف كل السجانين بأن مؤبداتهم لا تعني لها شيئاً وأنها ستعود إلى الحرية والشمس. بعد عشر سنوات من اعتقالها، جاءت الشمس، وأفرج عن فاطمة وأكثر من سبعين أسيراً وأسيرة إثر عملية «النورس»، في أول عملية تبادل بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل سنة 1979.
قبل «ثمناً للشمس» كتبت عائشة «أحلام بالحرية» ونشرته عام 2005، وبعده بثلاث سنوات نشرت مجموعة قصصية بعنوان «يوم مختلف» تطلق فيها لتداعيات وتراكمات التجربة كي تتجسد فنياً وإبداعياً بعيداً من ضرورات الالتزام بالتدقيق في الرواية والتأريخ كما في كتابيها الآخرين. قراءة «أحلام بالحرية» رحلة بالغة الصعوبة لما فيها من تفاصيل عن التعذيب وبشاعته، والذي تحملته عائشة 45 يوماً. يصعب علينا أن نتخيل فتاة عشرينية في مطلع حياتها تتحمل ما نقرأه من «عبقريات» التعذيب الصهيوني. لم تنكسر إرادتها ولم ينتزع الجلاد منها شيئاً. احتاجت عائشة أكثر من ثلاثين عاماً كي تعود إلى تلك الفظاعات لتوثقها وتكتب عنها باقتدار وتأمل.
في «ثمنا للشمس»، تستكمل عائشة عودة رحلة الرصد الدقيق وإعادة تركيب الأحداث. عشر سنوات من التحدي والتلويح بالقبضات للشمس والتواعد معها على اللقاء. أهمية ما تكتبه عائشة متعدد المستويات، ففضلاً عن التأريخ السردي لتجربة وحقبة بالغتي الأهمية والثراء في تاريخ فلسطين الحديث، فهي تكتب باقتدار فني وقلم روائي. بين أيدينا نص يصلح لإحالته الى مخرج مقتدر كي يصوغ منه دراما سينمائية رائعة، وهو ما أتمناه حقاً. رأينا أفلاماً لا تعد ولا تحصى عن تجارب فردية أو جماعية في سجون لا تبلغ كثافة القصة الدرامية فيها ربع ما نقرأه في «ثمناً للشمس». مشهد واحد فقط، على سبيل المثل، وهو محاولة الهرب والتناوب على توسيع حفرة صغيرة في نقطة مخفية تحت أساس أحد جدران الساحة الخارجية للسجن، يستحق فيلماً كاملاً وهذا ما أنتجته السينما في حالات شبيهة. السطور أدناه تنقل بعض المشاهد من نص عائشة عودة، الحقيقي والدرامي معاً، كتمرين تخيلي لكاميرا تجول وتلتقط «زووم إن» و»زووم آوت»:
«... أراد جندي أن يتسلى فأحضر «جندباً» وطلب مني أن آكله، فرفضت. هدد، لكني رفضت بهدوء. مزّق رفضي شرنقة القهر. تحول الجندي بجندبه إلى رسمية وطلب منها أن تأكله، فرفضت بصوت أعلى وأشد. استدار إلى عزية فصرخت به، كانت صرختها كشراع نشر أذرعه للإبحار. رفع الجندي عقب بندقيته ليضربها، فتحفزنا للدفاع عنها كأننا لم نكن قبل لحظات نئن من ثقل القهر...».
«... كان حصولنا على الدفتر حدثاً مهماً. قمت شخصياً بكتابة مجموعة «أرض البرتقال الحزين» لغسان كنفاني، وتفاجأت من نفسي كيف كانت في ذاكرتي كما لو أني حفظتها عن ظهر قلب. كتبت رسمية ملخصاً لقصة «الأم» لمكسيم غوركي ...».
«... وقال (المحامي العربي الذي وكّله أهل عائشة للدفاع عنها): ما كان لك أن تزجّي نفسك في السياسة وتدخلي السجن. وكان من الأفضل لك البقاء في بيتك لتعيشي حياتك مثل باقي الفتيات، فذلك خير من أن تكوني سجينة». أية صفعة يوجّهها لي ولنضالي!... قلت بغضب مشحون بحدة واضحة: لست أنا السجينة. أنا أكثر حرية من عشرات الملايين من نساء ورجال أمتك العربية الذين يقبعون في بيوتهم مكبلين بخوفهم. هم السجناء لا أنا...».
«... توالت الزيارات ومضى اليوم بين توديع واستقبال. انتهى يوم الزيارة وأنا ما زلت في الانتظار! أيعقل أن أهلي دون الجميع لم يحضروا! يا إلهي، ماذا حدث لهم؟... هل كنت وهماً وانتهى؟ هل كنت قطعة من جليد ذابت وتحولت إلى دمع سكبته داخل الحمام كي لا تراه الرفيقات؟ ... بعد أسبوع حضرت أختي وحدها. أين أمي؟ هل حصل لها شيء؟ شعرت للحظة بأن قلبي معلق بخيط واه سينقطع، وسأسقط في هاوية لا قرار لها... (أختها): أنت تعرفين أني لا أحب مرافقة الختيارت، سأرسلها لك هي ونجمة الأسبوع القادم. هل نسفوا البيت؟ قلت لك أن لا تسألي الأسئلة التي لا فائدة منها (كانوا قد نسفوه فعلاً)».
«... كنت أعلنت الإضراب عن الطعام قبل تسع سنوات... (ضد) قرار اتخذته أمي بمنعي من مواصلة دراستي. كنت سأترفع للصف الثالث الإعدادي، وكنت الفتاة الوحيدة من قريتنا التي تتابع دراستها في رام الله... أعلنت أني لن أتناول الطعام حتى الموت (بعد ثلاثة أسابيع على بداية المدرسة)! مع نهاية يوم الإضراب الأول... جاءت وجلست إلى جانبي، وأخذت تمرر يدها على رأسي: ... كومي كلي (انهضي وتناولي الطعام) وبكرة بنروح على عند المديرة، وأنا بترجاها ترجعك. بكلها إنك كنتي مريضة».
«... رندة النابلسي (إحدى رفيقات عائشة في السجن)، التي انسلخت عن طبقتها (الأرستقراطية) ودخلت العمل الثوري وبالذات العمل المسلح، وكانت في سجن نابلس تنتظر حكماً عالياً... رندة الثورية والرقيقة كزهرة ياسمين، أصبحت وردة السجن وبلسمه. سمينا نوعاً من الزهور لم نكن نعرف اسماً له: رند. أما سهام، توأم روح رنده، أبعدت بعد فترة، لتلقى قدرها وتستشهد على أرض سورية أثناء حرب تشرين، العام 1973.
«... كنت أجلس ولطيفة في ظل الشجرة الوحيدة الموجودة في الساحة المسيجة التي نتحرك فيها. دخلت سيارة إلى داخل السجن، وتعدت بوابة القضبان وتوقفت بالقرب من مكاتب الإدارة. نزلت من السيارة مجندة، ثم نزلت شابة ممشوقة الطول كعود الخيزران، كما تصف أمي جمال الطول، شعر حريري كخيوط ذهبية ينسدل ويغطي ظهرها. علقنا، ما أجملها من فتاة! هاتف في أعماقي قال إنها عائدة سعد! هكذا تخيلتها تطير في سماء فلسطين، حين سمعت عن عمليتها أثناء التحقيق... ذهبوا بها إلى المخزن الأسود وعادت تحمل صرتها... كانت تحمل حكماً بعشرين سنة. كان الحكم يزيد على عمرها بثلاث سنوات. عائدة بريئة كالأطفال وشفافة كالبلور. احتلت في القلب مكاناً لم يحتله غيرها، كانت ابنة لنا. سألناها مرة: كيف استطعت إلقاء قنبلتين على دورية عسكرية يا عائدة؟ قالت: ببساطة، ليس من حقهم أن يجوبوا بدباباتهم شوارعنا وحوارينا...».
قصص المناضلات الأوروبيات التي جئن من بلدان مختلفة للقيام بعمليات مقاومة، والتي يحتويها «ثمناً للشمس»، وانتهين رفيقات لعائشة في السجن، مذهلة هي الأخرى، ومعظمهن في العشرينات من العمر: مارغريت من بريطانيا، أوديت ونادية بريدلي من فرنسا، لي من كندا، باولا وماركوت من هولندا وغيرهن.
حولت عائشة ورفيقاتها السجن إلى مدرسة ثورية. المهمة الأولى، محو الأمية للجميع، بمن فيهن مجموعة من بائعات الهوى ممن تردت بهن الأحوال الاجتماعية واضطررن لهذا الطريق. هؤلاء شكلن صدمة لـ «الوعي الثوري» لعائشة ورفيقاتها، أيمكن أن يحدث هذا في مجتمعنا الفلسطيني؟ كل واحدة منهن لديها قصة بالغة الكثافة والمرارة. المهمة الثانية، الصمود و»تربية الأمل»، لا استسلام لليأس، والشمس سوف تأتي رغم المؤبدات... وقد جاءت.
في السجن، تبوح الرفيقات لبعضهن البعض بقصص الحب. يتركن للخيال أن ينداح لأيام ماضية، لأسماء دخلت القلوب الرهيفة، ولصور تتراقص في المخيلات مع أغاني الغرام لعبد الحليم وعبد الوهاب. لعائشة قصة عشقها أيضاً. تتذكر وجهه بكل وضوح، وأول مرة رأته فيها صديقاً لأخيها يجلس إلى جانبه... «كانت الومضة كافية لتحويلي إلى كائن من أثير، وليهتف قلبي «إنه هو بالذات». قلب عائشة الأثيري ما كان له أن يتوه بالعشق كثيراً. حبيبها «فدائي»، ولكم يسحرها هذا الوصف، وعنده مهمات، غادر يوماً وعاد شهيداً. بكاه القلب حرارة مخلوعة من قلب الشمس. عائشة واصلت المسير.