بقلم - خالد الحروب
لم تكن كولونيالية المشروع الصهيوني في فلسطين وتطوره قبل الانتداب البريطاني وخلاله محصورة ببعده العسكري الاستيطاني، ولم تتوقف عند التماهي مع المنظور الغربي الأوسع الذي لم ير في بقية العالم في الحقب الاستعمارية سوى مساحة نهب واستغلال. أبعد من ذلك، ربطت الصهيونية مشروعها القومي ومنذ مطلع القرن العشرين بالحداثة والعلم الأوروبيين واعتبرت نفسها طليعة التحديث الأوروبي في المشرق وحاملةَ لوائه، والمبشرة بالعلوم والتكنولوجيا في منطقة متخلفة وبدائية.
بهذا الربط العضوي مع الحداثة الغربية، فإن الصهيونية أنتجت صورة دعاوية براغماتية أخرى تضاف إلى الصور الأخرى التي أنتجتها عن نفسها وبها استطاعت تسويق المشروع أمام مجموعات وشرائح متباينة الاهتمام والثقافة والخلفية. نعرف صورة «الصهيونية القومية» التي دفعت بالصهيونية إلى المشهد السياسي والعالمي في أواخر القرن التاسع عشر كحركة قومية مناظرة للقوميات الأوروبية ومتساوقة معها في دوافع النشوء وطموحات المجموعة البشرية التي تمثلها، والإطار الدولتي والسيادي الذي تسعى إليه كما سعت باقي النزعات القومية، ذات الموطن الأوروبي الأول. وبسبب التعريف «القومي»، كان على المؤسسين الأوائل تخفيض رتبة الدين وإنتاج وتخليق هوية قومية دينية بالغة الغرابة والفرادة مزجت بين الإثنية والدين والثقافة، تحولت من خلالها أقليات يهودية منتسبة دينياً إلى «شعب متجانس» مشتت لا ينقصه إلا وطن ودولة.
كما نعرف «الصهيونية الدينية» التي تبلورت أيضاً في سجالات المدارس الصهيونية الأوروبية إزاء نظرتها وموضعتها للدين اليهودي في المشروع برمته. وقد نجح دعاة «الدين» في تطويع الكثير من الطروحات الصهيونية القومية العلمانية وتليينها لتستوعب أبعاداً دينية تربط المشروع بـ «أرض الميعاد» وبـ «شعب الله المختار» ومقولات عديدة أخرى تجعل من السهل على عوام يهود أوروبا وسواهم في العالم قبول المكون القومي في الفكرة الصهيونية. ونعرف أيضاً «الصهيونية الاشتراكية» التي تمكنت من تسويق الصهيونية وفكرة تأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين على أساس انه فكرة اشتراكية أصيلة، يتساوى فيها الفلاحون والعمال في بناء تعاونيات زراعية أولاً، ثم مجتمع اشتراكي لا مكان فيه لاستبداد الرأسمال وتوحشه. وفي مراحل لاحقة، تطورت صهيونيات ظرفية وسياقية وفق الاعتبارات الزمنية والمكانية والمصلحية ومنها ما يمكن وصفه بـ «صهيونية الضحية متعددة الصور»، وهي الصهيونية التي تعيد إنتاج ذاتها من منظور الضحية الأكثر جذباً للتأييد. ففي الولايات المتحدة مثلاً برزت طروحات تضع اضطهاد اليهود التاريخي إلى جانب نضال السود من أجل المساواة المدنية وحربهم ضد سياسات التمييز البيضاء. لم يبحث كثير من هؤلاء في أدوار عوائل ومؤسسات وشركات ورساميل يهودية عريقة في نيويورك وغيرها في تجارة الرقيق وفي موقع تلك الرساميل تحديداً في تكريس الحالة التمييزية للسود في أميركا.
الصورة الأقل شهرة عن الصهيونية وإن لم تكن الأقل تأثيراً وفاعلية هي ما يمكن وصفه بـ «الصهيونية العلمية»، والتي عبرها حاول الصهاينة الأوائل لبوس ثوب وكلاء الحداثة والتجريب العلمي وتمثيل الكولونيالية الغربية في استكشاف واستكناه أمدية التحديث والعلموية. تنقل أبحاث عدة عن رواد صهاينة كتبوا في العشرية الأولى من القرن العشرين عن فلسطين كـ «مختبر علمي» و «معرفي» يوفر لليهود بخاصة للأجيال الجديدة من يهود أوروبا (التي لا أمل لها بالانخراط في المجتمعات الغربية!) وكذلك ليهود العالم أجمع فرصة فريدة للاستكشاف والتدريب والتعلم. وفي سياق بناء صورة جذابة وعلموية حداثية عن الصهيونية، فإن بعض الطروحات البحثية الإسرائيلية تحاول إعادة إنتاج القادة الصهاينة الأوائل من تبعهم أيضاً، وتأهيلهم من منظور حداثي براق. وهنا نرى قائمة أسماء طويلة من تيودور هرتزل إلى غولدا مائير، مروراً بحاييم وايزمان وديفيد بن غوريون وقد أعيد تصنيف من فيها بكونهم رواد «علم وحداثة» وتنويريين، وليسوا فقط قادة سياسيين مهجوسين ببناء مشروع قومي صرف. بطبيعة الحال، ليس المقصود هنا الانجراف إلى أي تقييم غير موضوعي أو عاطفي ونفي أي صفة حداثية أو اهتمام حقيقي بالعلوم عند أولئك، لأن ذلك الاهتمام مثل بالفعل أحد أهم المكونات للمشروع الصهيوني، وأحد أهم جوانب تفوقه على تقليدية المجتمع الفلسطيني والعربي المحيط. لكن ما يُراد الإشارة إليه هنا هو تضخيم ذلك الاهتمام إلى درجة إعادة قراءة وفهم المشروع الصهيوني من ذلك المنظور، وبكونه استهدف «تحديث المنطقة» ونشر العلوم والتقدم فيها.
لا نحتاج إلى جهد كبير لإثبات خطأ تلك المقولة لأن المشروع الصهيوني كان أحد أهم الأسباب التي رسخت «عدم الحداثة» وكرست التمسك في كل ما هو قبل الحداثة، وأعاد إنتاج البنى التقليدية والدينية التي التجأت اليها المجتمعات بوهم انها السلاح الوحيد الفعال لمواجهة الصهيونية وإسرائيل التي تجسدت جراءه. لكن إحدى النقاط الجديرة بالتوقف عندها ملياً في ادعاء الصهيونية للحداثة والعلموية هو اعتبار فلسطين «مختبراً كولونيالياً» يتم فيه تجريب آخر ما توصلت إليه العلوم والتقنية في الغرب. تبدو هذه المقولة مخاتلة لأنها تقول شيئاً قد يبدو بريئاً وواعداً وعلمياً، إذ ما الضير من التجريب في حقول الزراعة والصناعة وغيرها بما يحسن من مستويات المعيشة لدى أي مجموعة بشرية؟ لكن ما وراء البراءة الظاهرية تَجسّد على الأرض «تجارب مختبرية» بالغة البشاعة كان ضحيتها المباشرة الفلسطينيون أنفسهم. فـ «التجارب» التي كان كثيرها يتعلق بالزراعة وربما احتل جزءاً مهماً من ذهن أصحاب المقولة العلموية الصهيونية دمرت الشعب الاصلاني، واجتماعه الاقتصادي، والزراعي، وروابطه، وانتهت بتشريده كلياً من أرضه. وهذه «المخبرية» والمآلات التي جلبتها للشعب الفلسطيني تقع عملياً في قلب مشروعات كولونيالية عديدة. وبهذا تكون الصهيونية العلمية ودعاتها محقين بالفعل عند نسبتهم المشروع للكولونيالية الغربية وتوحشها.
«الكولونيالية المخبرية» هي التي قادت إلى إبادة الهنود الحمر في أميركا امام الزحف الذي لا يتوقف للحداثة والعلم، مُقادين بالأسلحة والبارود والقدرة الهائلة على الاحتلال والقتل. وهي الكولونيالية ذاتها التي أخذت صوراً أوروبية مختلفة وترجمت في أفريقيا وآسيا واستراليا. في مناطق كثيرة من العالم وحيثما حلت تلك المشروعات الكولونيالية وتحت دعاوى ومسميات نشر الحضارة والعلم والتحديث كانت الأثمان باهظة، ودفعت الشعوب الاصلانية أكلافاً هائلة، وترسخت تراتبيات عالمية لا تزال قائمة حتى الآن. لم تؤد تلك «المختبرات» ولا القادة الاختباريون الذين رددوا مقولاتها إلى رفع سوية الفقر والجهل في العالم، بل كرسته. عملياً، يمكن ان نخلص بالقول إن النجاح الكبير في حداثة وعلم وتقدم الصهيونية كان في ابتداع فكرة المجتمع العسكري، وتدوير الاجتماع السياسي والاقتصادي والثقافي والفني حول فكرة الحرب و «الجدار الحديد».