بقلم خالد الحروب
في النقاش المستديم حول أدوار المثقف ومواقعه إزاء مسألة التغيير السياسي والاجتماعي، ثمة فكرة مغوية تصور المثقف وكأنه حالة أسطورية قادرة على اجتراح الخوارق. مطلوب من المثقف أن يواجه كل التحديات والمعوقات، الديكتاتوريات، الاحتلالات، الاستبدادات، التخلف الاجتماعي، الفساد، العسكر والأمن، وأن ينتصر عليهم جميعاً كي يكون وفياً لأفكاره ورؤاه. هذه الصورة، المبالغ في توصيفها هنا، خرافية بطبيعة الحال ولا علاقة لها في الواقع. المثقف، كما نعرف وكما دافع عنه ريجيه دوبريه ذات يوم، فرد من أفراد المجتمع يواجه تحديات حياتية ومعيشية وله عائلة وأطفال، وله وظيفة أو مصدر دخل يحاول الحرص على استمراره كما يفعل باقي البشر.
إزاء تصور المثقف وكأنه كائن خارق للعادة، بإمكانه القيام بالمعجزات، علينا أن نتذكر أن أكبر مثقف أو فيلسوف في العالم ومهما كانت أفكاره عظيمة لا يتحمل رصاصة واحدة في رأسه يطلقها عليه موظف أمن أرعن. سقراط الفيلسوف الأكبر ناوله السم فرد من النظام القائم لم نعرف اسمه. أفكار المثقف أهم منه وربما من دوره السياسي وانخراطه «الفيزيائي» في الفعل. كل المفكرين والفلاسفة الذين أعدمهم الطغاة تركوا خلفهم أفكاراً ونظريات قلبت مجتمعات وغيرت مسارات، وأهميتهم جاءت بالضبط من هذه النقطة وليس من دورهم السياسي المباشر أو الخارق للعادة. هذا الإقرار الأولي لا يعني ولا يتضمن أمرين. لا يعني، أولاً، نفي واسترذال عمل المثقف في السياسة أو أن يكون ناشطاً في نشر الوعي بالأفكار والرؤى التغييرية، بل إن هذا الانخراط هو بالضبط المطلوب والمفترض والحالة الطبيعية، لكن غيابه لا يستدعي إدانة المثقف. كما إن هذا الأقرار الأولي لا يعني وفي أي شكل من الأشكال التبرير والتسويغ لاندراج المثقف في «الوضع القائم» من دون أي مقاومة، حتى لو كانت لفظية وكلامية، أو وأضعف إيمانها الصمت عن تأييد الوضع القائم وتمثلاته. ثمة نقطة توازن دقيقة بين التمسك بالأفكار والدفاع عنها وعدم التخلي عن المبدئية، والمناورة ضد الإكراهات التي تفرضها السلطات والسياقات المختلفة، وعقلنة النظرة إلى المثقف التي تحول تميزه بالأفكار والرؤى إلى عبء أمام الوجدان الشعبي والرأي العام الذي يطالبه بإنجاز مهمات ضخمة خارجة عن قدرته الفردية.
ومن زاوية نظرية أوسع، يعود جزء من هذا الجدل حول دور المثقف أو المفكر الى حصر هذا الدور بـ «فهم العالم» أو توسيعه إلى مهمة «تغيير العالم». تتداخل المفاهيم والأدوار وتختلط إذا تعلق الأمر بالمشروعات والرؤى الكبرى التي تحفل بمصائر البشر وبقضايا جذرية مثل العدل ودحر الظلم والمساواة بين الناس. وإحدى مساحات التداخل النظري في أزمنة تاريخية ومتطاولة تعلقت دوماً بدور الفكر والفلسفة في التغيير، وعلاقة المفكر والفيلسوف بالفكر واليوتوبيا من جهة، وبالتاريخ المتغير والمنفعل مع الواقع من جهة أخرى. من هنا جاءت الرؤية الماركسية بمقاربة حسمت كثيراً من التداخل، وأعادت موضعة الأدوار والفاعلين عندما أناطت بالمثقف مهمة التغيير وليس فقط مهمة الفهم والتأمل التي يقوم بها الفيلسوف أو المفكر. تلك الإزاحة الكبرى في تعقل وفهم مهمة المثقف، ضمن السجال العريض للواقعية الماركسية ضد المثالية الهيغلية، أناطت بالمثقف مهمة متقدمة وفاعلة لأنه وإن كان قد يتوافق مع الفيلسوف في توصيف الوضع القائم (الفاسد، أو غير العادل مثلاً) وفهم جذور اعتلالاته، فإنه يفترق عنه باندفاعه نحو الرفض العملي والفاعل لهذا الواقع ومحاولة تغييره. ومن هنا طور انتونيو غرامشي في ثلاثينات القرن الماضي وفي سياق سنوات سجنه ونضالاته ضد الفاشية الإيطالية مفهوم «المثقف العضوي» الملتزم بقضايا الطبقات المسحوقة والملتزم بمواجهة السلطة والاستبداد. ومن هذا المفهوم تناسلت تعريفات وتحولات مختلفة للمثقف.
لا تتحدد مهمة المثقف في المواجهة المباشرة مع السلطات والاستبدادات السياسية والاجتماعية والثقافية التي يفرضها سياق معين، بل ربما والأصعب من ذلك التصدي لإعادة موضعة المشروع الثقافي المحلي الوطني إزاء انزياحات العولمة وتأثيراتها وإكراهاتها أيضاً. وهنا يمكن أن نقول إن هناك ثلاثة مكونات ثقافية في عالم اليوم تتآلف في تشكيل وبلورة الثقافات الوطنية حيثما كانت، وتفترض على المثقف التأمل العميق فيها وفي قراءة علاقاتها البينية. هذه المكونات أولها وطنية ذات خصوصية وطابع محلي، وثانيها مكونات كوزموبوليتانية إنسانوية متوافق عليها تمثل القيم والمشتركات الإنسانية مع الثقافات الأخرى أينما كانت، مثل قيم العدل والنبل والشجاعة والحرية، وثالثها مكونات إكراهية تفرضها في شكل مباشر أو غير مباشر الثقافة الغالبة في اللحظة المعنية التي يمر بها البشر. في زمن العالم الراهن، هذه الثقافة هي الثقافة الغربية وهي غالبة ومتغلبة لأسباب واضحة. وليست كل مكونات هذه الثقافة مرفوضة وإكراهية، بل بعضها، لأن مكونات أخرى من هذه الثقافة، أو الثقافات بالاحرى، ينتسب أو يقترب من المكون الكوزموبوليتاني، وفي عملية سيرورة دائمة. بناء على ذلك، تمكن موضعة كل ثقافة وطنية في موقع خاص بها إزاء المكونات المحلية، والكوزموبوليتانية، والإكراهية، وتأمل دينامية تعاملها مع هذه المكونات وفق خصوصية ظرفها التاريخي وأجندة القضايا الضاغطة عليها في ذلك الظرف، وهذه العملية أو المهمة مُناطة بالمثقف في المقام الأول، وتقع ضمنن «قدراته» الممكنة وليس الإعجازية. موقع ومفهوم واستجابة الثقافة الوطنية الخاصة في مجتمع وبلد مستقل ومستقر ولا يواجه تهديدات مثلاً تختلف عن موقع ومفهوم واستجابة ثقافة وطنية لمجتمع وبلد لم يستقل وما زال خاضعاً للاحتلال ويواجه تهديدات وجودية. وما هو مطلوب ومتوقع من هذه الثقافة يختلف عن ما هو مطلوب ومتوقع من الثقافة الأولى. وهكذا فإن الظرف والسياق المُشكل هما اللذان يحددان المفاهيم والأدوار في مبتدأ ونهاية المطاف، وليس التنظير التجريدي.
يتناسل عن التصور المثالي للمثقف وإناطة أدوار خارقة به تصور آخر لا يقل تعميمية ويقع على النقيض ويشير إلى سلبية المثقفين وعدم قيامهم بأي دور في مجتمعاتهم. ويشير البعض إلى «فشلهم في ثورات الربيع العربي».
عملياً، لا نستطيع وضع «الكتاب والمثقفين» في سلة واحدة ثم إصدار حكم قاطع عليهم وعلى أدوارهم. من المعروف أولاً أن الانتفاضات العربية فاجأت الجميع بمن فيهم الكتاب والمثقفون ولم يتوقع أحد انفجارها وتبلورها السريع في أكثر من بلد عربي وإسقاطها عدداً من أكثر الديكتاتوريات العربية رسوخاً. وإسقاط أي ديكتاتورية في أي مكان في العالم هو وظيفة الثورة ومهمة تقع أكبر بكثير من قدرة أي مثقف أو كاتب. المثقف ليس كائناً أسطورياً يمكنه القيام بالمعجزات، بل هو فرد عادي يمتلك رؤية للتغيير ويحاول نشر الوعي بها. ليست لديه أدوات غير الفكرة والكتابة، ثم التبشير بما يرى، ومشاركة القوى الفاعلة مشروع التغيير. المثقفون والكتاب السلبيون هم مثقفو «القبيلة» أي أولئك الذين يقفون في صف الاستبداد والديكتاتوريات، أو في صف الأيديولوجيات الصلدة التي لا تقبل الآخر وتريد قولبة المجتمعات والثقافات وفق ما تراه من رؤى أحادية.
والمثقفون والكتاب السلبيون في كل حين وآن هم مثقفو «التسويغ» و «التبرير» وهؤلاء إما يفتقدون لبعد النظر التاريخي الذي يموضع أي تغيير في سياقات زمنية وتاريخية أوسع لها علاقة بالنهضة المستقبلية، وإما يتسمون بالجبن الفكري وتفضيل ما هو معروف قائم على ما هو مجهول وغير قائم، أو ينحازون للمصلحة الأنانية والاعتياش والارتزاق على ما تمنحهم اياه الأنظمة القائمة. وجود مثقف القبيلة هو الذي يؤشر الى النقيض وهو المثقف الناقد والمثقف العضوي والمثقف القلق، وهؤلاء هم حملة لواء التغيير رغم أنهم ليسوا خارقي القدرات ولا من حملة المعجزات.