د. خالد الحروب
لم يكن ثمة "بابوية"، بالمعنى المسيحي والكهنوتي المركزي، في تاريخ السلطة الدينية والسياسية في الإسلام: أي بابوية دينية تتمتع بقوة معنوية باذخة وتحتكر "القول الفصل" في المسائل الدينية.
بعد الفترة النبوية والراشدية القصيرة سرعان ما تعددت المدارس الفقهية والفكرية وتنوعت الاجتهادات، ولم يمتلك أي منها القدرة الدينية والرمزية على انتزاع حصرية النطق باسم الإسلام.
وتاريخياً، لم يتم النظر إلى ذلك التنوع في الاجتهاد والتعدد في المدارس الفقهية والفكرية من منظور سلبي، إذ انتظم كله في منظور توكيد الأثر النبوي من أن "اختلاف أمتي رحمة".
ولطالما تم النظر إلى تلك الحقيقة التاريخية، أي غياب السلطة الدينية المركزية الصارمة، وسيروراتها المتنوعة نظرة قوامها الاعتداد والتفاخر، تؤشر على غياب طبقة رجال دين، اكليريوس، تتحكم في مصائر الناس وتزعم قيادتهم نحو الخلاص النهائي في الحياة الآخرة.
ما هو موجود، بحسب تلك النظرة، هو علماء دين لا يختلفون كثيرا عن الناس العاديين إلا بتفقههم في الدين وانكبابهم الطوعي على ذلك التفقه، بيد انه تفقه لا يخولهم امتلاك سلطة دينية فارضة على الآخرين.
يعود ذلك إلى طبيعة الدين التحررية لحظة تأسسه، ومن خلال نصوصه المقدسة، ثم عبر ترسيمه طبيعة العلاقة الرأسية المباشرة بين الأفراد والخالق.
وتلك الطبيعة التي أزاحت الوسائط التي تعترض الطريق بين الفرد والسماء أتاحت مشاعية واسعة للفهم الديني والتطبيق والاجتهاد، ما انتج مِللا ونِحلا تكاد لا تُعد ولا تحصى.
لم تكن الأمور في مختلف العصور والحقب وردية وزاهية ومتسقة مع ذلك الفهم التأسيسي، حيث يتعايش التعدد الفقهي والفكري بسلام واحترام متبادل، فلقد تدخلت السياسة بكل بشاعاتها.
ومع تدخلها تعاقبت فترات طويلة ومتناثرة هنا وهناك تمكنت فيها السلطة السياسية في هذه الخلافة أو تلك الإمارة من السيطرة على التعددية الفكرية والفقهية، وتخليق مركزية دينية تابعة للسلطة السياسية مباشرة.
كان الهدف من إحكام القبضة السياسية على تعددية الفهم الديني ضمان المشروعية السياسية وضبط العلماء والفقهاء والمفكرين والكلاميين وفق رؤية وحكم فقهي واحد مناطه الإقرار بشرعية الحاكم.
وإن قبلت مدرسة فقهية ما إكراهات الحاكم ومنحته في المقابل المشروعية الدينية لحكمه، تطورت إثرته لها على غيرها إلى قمع لهم، وتطهير للساحة من المخالفين للمدرسة الفقهية المتحالفة مع السياسة والنخبة الحاكمة.
برغم وطأة السياسة على الدين في التاريخ الإسلامي وتوظيف الأولى للثاني، بقيت التعددية الدينية والفقهية والفكرية عصية على أي نوع من المركزية المطلقة للسلطة الدينية.
الجوامع الفقهية الأكبر من الأزهر في المشرق إلى القرويين في المغرب كانت مشرعة على الأفكار والمقاربات المختلفة.
وبالتوازي مع طيفها الفقهي تطور طيف "إسلام سياسي" يبدأ من إخضاع الرأي الفقهي للحكم السياسي القائم ومنحه المشروعية، وينتهي بآراء على الطرف النقيض تنزع المشروعية تماما من نفس الحكم وتشرعن الخروج عليه.
وربما أمكن القول إن الفترات الأكثر رسوخاً في جانب السلطة الزمنية، السياسية، حيث تتمازج القوة العسكرية المعبر عنها بالفتوحات مع التقدم والازدهار الداخلي، شهدت أكثر المحاولات وأنجحها نسبيا لمركزة السلطة الدينية (مثلاً في عصر الازدهار العباسي في عهد المأمون، وفي عصور الازدهار العثماني (السليماني) والأندلسي)، وربما تطورت معها "شبه مركزية دينية".
وإذا كان غياب مركزية السلطة الدينية في التاريخ الإسلامي أبقى على فضاءات واسعة لإنتاج أفكار وفقه واجتهادات متنوعة ومتنافسة، فإن ذات الغياب أنتج دوماً جماعات وتيارات تقع على أقصى يمين التطرف والتعصب وتكفير بقية المسلمين.
ذلك أن أية مجموعة مهما صغرت وترأسها أمير ما وقدم فهمه الخاص للدين ونصوصه كان بإمكانها أن تقدم نفسها للعامة بأنها "جماعة المسلمين". وهكذا، ظهرت "جماعات" كثيرة تزعم بأنها "الفرقة الناجية" وغيرها هالك. لكن سطوة الخلاقة أو الدول الإسلامية المتنوعة، والنجاحات المتفاوتة لتلك الدول، كان يحرم تلك الجماعات من المضي قُدما في الطريق الطويل والوعر لامتلاك حصرية النطق باسم المسلمين.
ولأن تلك الجماعات وخطاباتها بقيت على هوامش الحركة العريضة للمجتمعات المسلمة ونخبها الحاكمة، فإنها لم تؤثر جوهريا في الوسط العام. ولأنها بقيت هامشية وضعيفة فإن الفكرة الأساسية حول تغلب الجوانب الإيجابية على تلك السلبية لغياب السلطة الدينية المركزية بقيت هي الرائجة.
في العصر الحديث، وتحديدا بعد انهيار الخلافة العثمانية التي بقيت على ضعفها تمثل السلطة الرمزية لكثير من المسلمين، تفتتت السلطة الدينية الملحقة بها والتي كانت تمنحها الشرعية من ناحية، وتضعف من ناحية أخرى أي نزعات جماعاتية هامشية تطرح نفسها كسلطة بديلة، أو كصوت حصري ناطق باسم الاسلام.
ومع تفتت تلك السلطة، وهي آخر ما تبقى من سلطات شبه مركزية، انداح المجال واسعاً أمام جماعات وحركات وخطابات دينية متنوعة المنابع والأفهام، قفزت لملء الفراغ الناجم عن غياب السلطة الدينية العثمانية التي كانت أصلاً هشة وغير متحكمة بالفضاء الديني بشكل إجمالي.
ترافق بروز هذه الجماعات، والتي صارت تعرف بحركات الإسلام السياسي وأولها "الإخوان المسلمون" في عشرينيات القرن الماضي، مع بروز شكل جديد للتسيس الاجتماعي والجغرافي والديموغرافي في "دار الإسلام" تمثل في "الدولة الوطنية".
فهنا، وتبعا لإيقاع عالمي سريع وشامل انهارت فيه امبراطوريات أوروبا، انهارت فكرة الخلافة، وورثتها دول أصغر حجما، غير معرفة دينياً، وترتكز على مفاهيم جديدة توافقت عليها أمم العالم، أهمها مفهوما "السيادة" و"المواطنة"، وهما مفهومان تطورا بعيدا عن أي تقعيد ديني، سواء أكان مسيحياً أم مسلماً، وحددا جغرافيات شبه مقدسة، لا يجوز التدخل فيها، للشعوب التي تقاسمت الدول وفقا لأصولها اللغوية والاثنية والمكانية، وصهر أفرادها، نظرياً، وفق مفهوم المواطنة (وليس وفق المفهوم الامبراطوري المندثر: مسيحيون وغير مسيحيين، أو مسلمون وغير مسلمين)، فهنا وفي الدول الناشئة جديدا يتساوى الجميع أمام القانون والدستور.
لم تكن هذه التغييرات الحادة الجذرية في بنية التكوين السياسي الإسلامي، القائم على مفهوم الخلافة، بالشيء السهل تقبله وهضمه وفي فترة زمنية وجيزة.
وفي فترة الانتقال المتوتر هذه، من شكل سياسي قديم إلى آخر حديث، تفاقم أثر غياب سلطة مركزية دينية، مع غياب أية سلطة مركزية سياسية، ووفر ذلك كله وما زال يوفر أرضية خصبة لبروز كل أشكال الخطابات والجماعات التي تدعي النطق باسم الدين، وترى في نفسها حامية له.
من الإخوان المسلمين في الربع الأول من القرن العشرين، إلى داعش في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، شهدت بلدان وشعوب العالم العربي والإسلامي تاريخاً حافلا يمكن أن يُقرأ من زاوية غياب السلطة الدينية المركزية.
وهو غياب يثير اليوم سؤالاً عميقاً: هل تحول ذلك الغياب الذي كان إيجابيا وضامنا للتنوع والتعددية، إلى مُسبب للفوضى الدينية والسياسية تلحق الدمار بالشعوب، أكثر من أي شيء آخر؟