خالد الحروب
كان يتعرق في داخله وفي جسده إلى درجة مهولة. ينتظر لحظة الصفر كي يضغط على زر الحزام الناسف الذي يطوق جسده، كي يحيل هذا الباص المزدحم بالركاب والمنطلق من بغداد نحو الجنوب إلى دمار هائل من جثث ودم وحرائق. إسماعيل الذي وصل حديثا إلى “أرض المعركة” بعد رحلة تهريب طويلة وعصيبة من “حي الأمريكان” الشعبي في طرابلس يشعر بأن جسده قد التحم بالحزام الناسف وأصبحا كتلة واحدة.
مسؤولو التدريب والتفجيرات ألحوا عليه بأن يداوم على الصلاة وقراءة القرآن طيلة الساعات الطويلة التي يقبع فيها في المقعد الأخير من الباص وقبل أن يصل إلى محطة الركاب الأخيرة ويطلق حمم جهنم من متفجراته ليتضاعف عدد القتلى.
كان “الإخوة المدربون” قد تطاولت بهم الخبرة ليدركوا أن أية فترة صمت وتأمل قد تمر بـ “الجهادي الانتحاري” قد تقوده إلى مساءلة الهدف والغاية من الفعل البشع الذي سيقدم عليه.
سوف يغرق في وجوه الناس العاديين قبل أن يتحولوا إلى أشلاء من اللحم والدم، وقد يضعف ويتراجع.
لقد ضعف وتراجع كثيرون في اللحظة الأخيرة وإسماعيل يجب أن لا يكون منهم.
في رحلته الأوديسية المرعبة من لبنان لينضم إلى “قاعدة بلاد الرافدين” كادت الساعات المديدة التي بانت وكأنها لن تنتهي أن تقضي عليه وهو حبيس صهريج التهريب.
لا يريد أن يموت رخيصا، يريد أن يموت شهيدا وبطلاً، لا يهم كيف وضد من، رمزية الفعل تتعدى جوهره وهدفه والغاية منه، لا مكان للتفصيل هنا.
حاله ليس بعيدا عن حال رفاقه “الإخوة” الذين ضمهم صهريج التهريب واجتمعوا فيه هكذا صدفة تائهة تافهة تجمع “مشاريع موت”.
كل منهم جاء لهدف واحد هو الموت، أفدح القصص، ربما، كانت قصة أبو عبد الله الصومالي الذي بدأ رحلة التهريب من موريتانيا وصولا إلى ليبيا ومنها بحرا إلى ميناء اللاذقية، ثم إلى لبنان، وعودة إلى سورية ملتحقا بصهريج التهريب المنظم تنظيما دقيقا.
عندما وصل إلى “أرض المعركة” كان نصيبه تدريبا على دراجة نارية سوف تحمله لاحقا إلى شمال العراق ليفجر نفسه في عرس شعبي محتشد للأكراد الفيلية ويقتل ويجرح المئات.
لا يعرف لماذا يحول هؤلاء السكان الذين عاشوا في هذه المنطقة آلاف السنين، وهو القادم من الصومال وبالكاد يعرف موقع العراق على الخارطة، إلى كومة دم ورماد ولحم محروق.
حيث ولد وترعرع، أي في “حي الأمريكان”، يعكس إسماعيل حالة جيل كامل ضاع في ضجيج صدام الأصوليات والاستبدادات والمخابرات.
لم تعد هناك بوصلة، ولم يعد هناك ما هو واضح، طرابلس العريقة التي عاندت العثمانيين وقاومت الفرنسيين وأنتجت تاريخها وشخصيتها وتعدديتها وهوياتها المتصالحة انزلقت على منحدر سريع صار يعري كل العراقة التي فيها.
طرابلس آل العزام والعائلات القديمة وما امتد منها أو حولها، وتناغمُ مسيحييها العفوي مع مسلميها من دون تقعر بالتعايش صارت تختفي. صوفيوها صاروا يختفون ويظهر مكانهم غرباء عنيفون في المسلك والمظهر.
طالت لحى كثيرة وظهرت أثواب مقصرة وهيئات غريبة، أئمة جوامع المدينة وأعيانها الذين احترمهم الناس قرونا من الزمن أجبروا على الانزياح لهؤلاء النابتين من تراكمات الفشل والذين يريدون أن يقاتلوا من “أجل عزة أمة الإسلام”.
من هي أمة الإسلام؟ وما هي عزتهم؟ ومن هم أعداؤهم؟ وهل وكلتهم أمة الإسلام بالدفاع عنها؟ ولماذا يقتلون أمة الإسلام نفسها التي يريدون الدفاع عنها؟ وألف سؤال وسؤال آخر لا يلتفت إليها إسماعيل ولا بقية “الإخوة” القادمين من كل أصقاع الأرض ليفجروا انفسهم ويحتفلوا بالموت.
المهمة “الجهادية” الأولى التي ينخرط فيها إسماعيل كانت محاولة تفجير صلاة هندوسية جماعية للخادمات في طرابلس انتقاما لاضطهاد البوذيين للمسلمين في الهند!
ليس ثمة مكان للتفاصيل في ذهن صُناع الموت فيصبح الهندوس والبوذيون واحدا، لا يهم إن كانوا دينيين أو حتى أعداء، المهم أنهم من “الفسطاط الآخر”.
لحسن الحظ تفشل العملية ولا تنفجر القنبلة التي وضعت في سلة مهملات المبنى الذي كانت ستؤول إليه الخادمات المسكينات، لكن ذلك لا يؤثر على مسيرة صناعة الموت.
مرة أخرى يبدع جبور الدويهي، الروائي اللبناني المالك للغة والتفاصيل، في تصوير تحولات مدينة الشمال اللبناني وانهياراتها.
من بين شقوق الإنهاك الداخلي لناس “حي الأمريكان” الشعبي ولناس آل العزام الارستقراطيين يلتقط نمو التطرف والعنف والأصوليات.
عبد الكريم العزام، سليل العائلة المحترمة يعيش متشظيا بين الماضي الذهبي لجده وأبيه الذي ليس له قدرة على إرثه وتمثله، وفردانيته الحالمة والضائعة في تجربة نصف فاشلة في فرنسا، أعادته إلى مدينته متيما بحبيبة بلقانية ذابت فجأة كثلج بلادها.
بعد “مطر حزيران” و”شريد المنازل” يقدم الدويهي رواية “حي الأمريكان” ملتقطا بدقة السينمائي المجنون بالتفاصيل أنفاس ناس الشوارع، وروائح الأزقة والدكاكين، وألوان الأتربة الخفية في طيات الزوايا.
عندما يتحدث عن طرابلس، الفقيرة أو الغنية، يكون السرد بطيئا، تفصيليا، فيه كل شيء يتنفس، ...، إلى درجة الرتابة والملل.
هنا وهذه هي الحياة وصورة الناس والمدينة، هنا الحقيقة. عندما يتحدث عن طرابلس الطارئة وأصولييها، يصبح السرد سريعا وعموميا لا مكان فيه للتفاصيل، لا ملامح لناسه، ولا روائح ولا ألوانا نحس بها طالعة منهم أو لهم، هنا وهذا هو الموت وصورة القاتلين القادمين، هنا الزيف.
الدويهي لا ينحني أمام ريح الموت التي تعصف بالناس في المدينة، ينتصب في وجهها وينتصر للحياة.
كابية هي تحولات مصطفى وناس كثيرين ولجوا بوابات الموت. لكن، وفي تلك اللحظة العصيبة التي كان ينتظر فيها إسماعيل اللحظة الأخيرة لضغط الزر وتفجير نفسه وحزام الإبادة حوله في الباص، نزل ولد صغير من حضن أمه في المقعد الثاني من الباص وصار يلهو ويمشي ويعد الركاب بلكنة عراقية تزهر على فمه اليافع.
كان يمر على كل كرسي ويضغط بإصبعه الهش صدر أو أفخاد الركاب ويواصل العد. وصل إلى إسماعيل، نظر في عينه وابتسم، وضغط على صدره وعد 37.
كانت صلوات إسماعيل قد توقفت وهو يراقب الولد ويرى فيه أخاه الذي تركه وراءه، مع عد الركاب بالصوت الولادي البريء تقلص الموت في قلب إسماعيل ووجدانه، وقامت قيامة الحياة.
انفصل الحزام الناسف عن جسده، تعرق كثيرا، ثم نزل من الباص في أول فرصة، وتحرر من الحزام والموت.
اقتحم جبور تنظيم «قاعدة بلاد الرافدين» وتنظيمات مسلحة كثيرة، وهناك جند خلية صغيرة من إسماعيل وعبد الكريم آل عزام وأم محمود وانتصار والمشنوق، كانت مهمتها الانتصار للحياة وإبطال صاعق الحزام الناسف ... كي ينجو الولد الذي يعد الركاب، ونجحوا.