خالد الحروب
هناك أكثر من إيران وكل منها لها عدة أوجه، وهي «إيرانات» متنوعة ومتعددة قد تتكامل أو تتنافر جزئيا، لكنها ليست متناظرة ومتطابقة تماماً، وهذا يفرض ضرورة الفهم المركب والمعمق لما نراه اليوم من فيضان وتوتر في آن معاً للنفوذ والتمدد الإيراني.
هناك بشكل أساسي ثلاث «إيرانات»: الأولى هي إيران التوسعية المهجوسة بإحياء الإرث الفارسي الامبراطوري، والمشحونة بالتاريخ الذي يدفع إيران وقادتها وشعبها دفعا ويورطهم في مشروع إمبريالي إقليمي دائم.
إيران هذه ترى المنطقة كلها تابعة لها، وبكونها تملك مشروعا امبراطورياً متفوقا على جوارها، تواردت تمثيلات هذه الإيران الامبراطورية على السنة مسؤولين إيرانيين كثر مؤخرا، تفاخر بعضهم بسيطرة إيران على عواصم عربية أربع، وتشاوف الآخر بأن الجيوش الشعبية التابعة لإيران تجوس في طول وعرض المنطقة.
لكن التمثيل الأبرز والاكثر فجاجة جاء قبل اسبوعين على لسان علي يونسي مستشار الرئيس الايراني روحاني عندما تفاخر بأن ايران عادت إلى وضعها الامبراطوري الطبيعي وان العالم برمته اصلا هو جزء من الشخصية الايرانية، واعتبر ان العراق ليس جزءا من النفوذ الثقافي لإيران وحسب بل جزء من «هوية إيران» وهو «عاصمتها» وان هذا امر لا يمكن الرجوع عنه لأن العلاقات الجغرافية والثقافية القائمة غير قابلة للإلغاء.
إيران الامبراطورية الفارسية إذا تعتبر موقعها الطبيعي هو السيطرة المطلقة على المنطقة وقيادتها، وهي تنظر للعرب ليس وفق نظرة احتقار وازدراء لا يتوارى عن التعبير عنها أدباء وفنانون وسياسيون كبار فيها، بل وفق نظرة عنصرية بالمعنى العلمي للكلمة.
ثمة تواريخ ماضية وقرون وتجارب مريرة ساهمت وتساهم في الإبقاء على إيران الفارسية، ليس ثمة مساحة هنا للانخراط في نقاشها، لكنها تجارب خلقت جرحا نرجسيا دائم النزيف في الشخصية الجمعية الفارسية الإيرانية.
ظل ذلك الجرح النرجسي العميق يظهر بين الحين والآخر وبصرف النظر عن «شكل الدولة» القائم في إيران.
في العصر الحديث مثل الشاهنشاه، ملك الملوك، احد اهم التعبيرات عن ذلك الاحساس الامبراطوري المتوارث، ليس فقط في الحمولات الرمزية الفائضة، بل وايضا وهو الاهم في السياسات الخارجية المُتبناة، والتي اتسمت بالتوسعية وازدراء الجوار العربي وتسنم موقع «شرطي المنطقة» لعقود طويلة.
في عهد الخميني اخذت تلك النزعة التوسعية الفارسية شكلا دينيا حيث لبست رداء «تصدير الثورة» واستهدفت الجوار المباشر وهو العراق والخليج العربي.
صحيح أن صدام حسين كان المُبادر بالحرب ضد ايران وكانت تلك المبادأة قصر نظر، لكن المناخ التأسيسي الذي نشرته ثورة الخميني بخطابها الاستفزازي ليس فقط للعراق بل ولكل الخليج، كان هو المسؤول المباشر عن تلك الحرب الأليمة التي حصدت ملايين وأسست لما نعيشه الآن.
وفي الاطوار اللاحقة من حياة «الثورة الايرانية» ومنها اللحظة الراهنة، وجدت «الامبراطورية الفارسية» الكامنة في مسألة حيازة السلاح النووي البوابة الاهم والاوسع لاستدعاء كل الماضي المجيد وإثبات احقية ايران بالسيطرة الاقليمية واعادتها الى «موقعها الطبيعي» وهي قيادة بلدان الشرق الاوسط واخضاع شعوبها.
ضمن هذا الشعور المتضخم بالذات الامبراطورية يتم توظيف كل المسائل والقضايا التي تطرحها الاحداث الصغيرة (بما فيها، وربما على رأسها قضية فلسطين).
وقد لعبت فلسطين ومنذ عهد الخميني فصاعدا الرافعة العاطفية والدينية التي مكنت ايران من فك اقفال عديدة في المنطقة العربية.
لكن هذا الدعم، والذي كان جديا وحقيقيا لمنظمات المقاومة مثل حماس والجهاد الاسلامي، لا يمكن فهمه الا من زاوية التوسع الاقليمي وتعزيز مكانة ايران، وليس حبا في فلسطين والفلسطينيين ولا قضيتهم. واضعاف ذلك الدعم ما تلقاه حزب الله الذي يشكل اليوم الذراع الحقيقية للمشروع الفارسي التوسعي وعلى رافعة «المقاومة والممانعة».
تتماهى مع «ايران الامبراطورية الفارسية» ايران اخرى هي «ايران التشيع السياسي» التي اطلقها الخميني وطرحت نفسها حامية للشيعة ليس فقط في المنطقة، بل وفي العالم بأسره.
وهذه الـ «إيران» تتسم بكونها هي ايضا ايران عابرة للحدود ولا تحترم سيادات الدول.
واذا كانت ايران الفارسية مهجوسة بإحساس الامبراطورية المهزومة والتي تريد أن تنهض، فإن إيران «التشيع السياسي» مهجوسة بإحساس المذهب الاقلوي المدجج بشعور الاضطهاد والهزيمة، والذي يريد أن ينهض منتقما مما يراه مظلوميات فرضتها عليه الاغلبية العربية السنية.
مقابل هاتين الـ «إيرانتين» السابقتين هناك «إيران» ثالثة هي ايران الدولة - الامة اي nation state والتي من المفروض ان تكون ملتزمة بالقانون الدولي وتحترم سيادات الدول ولا تستبطن اي مشروع ايديولوجي او امبراطوري متجاوز للحدود، والقائمة على مبدأ المواطنة وليس المذهب.
هذه الايران الاخيرة هي اضعف الايرانات مع الاسف، وهي ما يجب ان يتم دعمه وتقويته والتعاون معه.
صحيح ان هناك تيارا عريضا وقويا داخل ايران «الدولة الامة» يريد لهذه الاخيرة ان يتصلب عودها وحضورها مقابل ايران الامبراطورية وايران التشيع السياسي، لكنه لا يمتلك قوة خطابات الاخرين وايديولوجيتهم.
كما ليس هناك حدود فاصلة وواضحة بين هذه الايرانات الثلاث كما ليس ثمة كتل داخل ايران صارمة الملامح يمثل كل منها ايرانه الخاصة به.
بل هناك تداخل وغموض التعريفات حيث تبدو هذه الايرانات كثلاث دوائر تتداخل في منطقة الوسط، بما يعني اشتراكها في عناصر عديدة لكن اختلافها في عناصر اخرى.
ما يجب على العرب ان يطالبوا به ويشجعوه ويتعاونوا معه هو ايران الثالثة القائمة على مبدأ الدولة - الامة والتي يكون مواطنوها ايرانيين بالتعريف، وهذه الايران هي وحدها التي يمكن أن تعيش بسلام مع جوارها العربي وتقيم علاقات ليست فقط قائمة على الاحترام والمصالح المشتركة، بل والتعاون ايضاً، والذي يجب ان يصل الى صوغ نظام امن اقليمي يحاصر المخاطر والصراعات.
ايران التي تنزع عنها هوس التوسع والسيطرة على عواصم العرب، وادعاء تمثيل الشرق الاوسط وشعوبه، وانهم جميعا جزء من الهوية والتاريخ الايراني.
ربما كان هذا الكلام الآن شعرا ورومانسية لا تتحقق على ارض الواقع ببشاعته، لكن ليس هناك من سبيل الا لجم ايران التوسعية وتنمية ايران الدولة.
والمثال الاوروبي طازج ومُعلم حول دول ومشاريع توسعية، فاشية ونازية، ذات ايديولوجيات عنصرية ومزاعم مظلوميات تاريخية، تم لجمها وتقليم تطرفاتها، وتحولت الى دول امم رصينة ومحترمة!