خالد الحروب
الهمجية الداعشية التي تتمظهر عسكريا وتوحشيا في اقصى صورها على شكل داعش ودولتها العتيدة هي عمليا النتاج الطبيعي لما يُقارب من قرن كامل على توظيف الدين في السياسة في منطقتنا. والتأمل في مآلات المنطقة وخياراتها المستقبلية المحدودة يشير الى شواهد و"بشائر" الحروب الدينية والطائفية المدمرة القادمةً. والمدهش حقا هو ان ملاحقتنا جميعا لبيارق تلك الحروب وهي تخفق في عدة بلدان، لا تمنعنا من الركض خلفها ونحو الحتف الجماعي الذي ترسمه لنا وكأننا في حالة نوم مغناطيسي مذهلة. هذا المسار تقوده الداعشيات السنية والشيعية معاً، وخلفهما تلهث شعوب واعلام ونُخب وحكومات واحزاب سياسية. في فضاء كل من "المعسكر السني" و"المعكسر الشيعي" في المنطقة هناك نفس الخطاب والتجييش والاقصاء والتكفير والاتهام بالعمالة لـ "المعسكر الآخر". تحليل الخطاب الديني والسياسي والاعلامي السائد يقود الى نفس النتائج تماماً مع تغيير مفردة "سني" او "شيعي" وحسب. المعمل الاساسي لخطاب التصفية والإقصاء يشرف عليه داعشيو السنة وداعشيو الشيعة، ثم يصدرون منتجهم القاتل الى بقية المعسكر بمتطرفيه ومعتدليه وحتى علمانييه، ويعيد هؤلاء استنساخه وانتاجه بسذاجة قاتلة. في مناخ كهذا لا يحق لك حتى لو كنت علمانيا صافيا لا يؤمن بخلط الدين في السياسة ان تأخذ الحياد او رفض الانجرار إلى مستنقع الطائفية وعفونة خطابة وتصنيفاته. تختفي كل المساحات الرمادية والهوامش ويُحشر الجميع بين فكاي كماشة الاسود والابيض: من ليس معنا فهو ضدنا، وعلى المذبح غير المقدس لهذا الشعار يتم نحر العقلانية والتعقل والاختلاف.
تأمُلُ حالة التدعوش الجماعي التي ننحط إليها وبإستخدام قليل من التعقل تقودنا الى توكيد جملة من الافكار الإنقاذية التي دعا إليها كثير من مثقفي العرب منذ اكثر من قرن من الزمن، وكثير منهم ما يزال. الفكرة الاهم هي كارثية خلط الدين مع السياسة سواء من قبل الحكومات والانظمة او الحركات والاحزاب الاسلامية. في كلا الحالتين وبحثا عن شرعيات مفقودة في الحالة الاولى، وتأسيساً لخطاب يوظف التدين الشعبي في الحالة الثانية، ازيح الجزء الاعرض من السياسة وعلى مدار عقود طويلة الى مربع الدين. وهناك تم تديين السياسة واعتبارها مكونا من مكوناته المعاصرة، فصار الحكم والمعارضة والانتخابات وما تعلق بالممارسة السياسية شأنا دينياً. في المرحلة الاولى من هذه السيرورة ظن اللاعبون الاساسيون الذكاء الخارق في انفسهم لجهة توظيف الدين والأبقاء على مقاليد السيطرة على نواتج جانبية مُتولدة من هذه العملية الخطيرة. وعلى مدار قرن تقريبا اعتاشت انظمة ودول وحركات ومنظمات على مسألة الشرعية الدينية للعمل السياسي الذي تقوم به، وبدا في حقب طويلة أن هذه العملية غير مُضرة خاصة وانها ارتبطت بالدول المعتدلة الى حد ما، وكذلك بإنتاج حركية اسلامية معتدلة الى حد ما مقارنة بما نشأ وتطور في حقب تالية. بيد ان ما كان يحدث تحت السطح المخاتل في اعتداله كان بالغ الخطورة ومدمراً. إذ بإستخدام ذات الآلية (توظيف الدين في السياسة) التي احتمت بها انظمة او استغلتها حركات الاسلام السياسي نمت في الظلام وفي جنبات وزوايا الفشل السياسي والاقتصادي وتواصل القهر وانعدام المستقبل تنظيمات وافكار بالغة التطرف. ومنذ منتصف سبعينات القرن الماضي على اقل تقدير لم يتوقف نمو وزيادة عدد وتنوع هذه التنظيمات التي انخرطت في سباق مع نظيراتها في اظهار التشدد والتطرف، والإدعاء بأنها تمثل الاسلام الصحيح، وان غيرها ومهما كان متدينا واسلاميا (دولة، او افراداً، ام حتى حركات اسلامية اخرى) مارق عن الدين او منافق. على ذلك يمكن عمليا الزعم بأن بدايات تشكل داعش تذهب الى هناك، من ناحية الشكل المتطرف العام، ومن ناحية التوظيف الدموي للدين لتحقيق اهداف سياسية.
لكن لم يكن للداعشية، بشقيها السني والشيعي، ان تنجح لولا المناخ العام الذي وفر لها كل مكونات الحياة والنمو والتطور السريع. في مقدمة ذلك المناهج التعليمية والدينية وخطاباتهما في المنطقة، وخاصة في دول المشرق. ذلك انه برغم التطور التحديثي الذي انخرطت فيه الدول العربية فقد بقيت المناهج التعليمية جامدة، وأسيرة خطاب ديني متكلس واحادي يوفر العناصر التكوينية الاساسية لأي تطرف لاحق. ففي كثير من مناهج التربية الدينية في عدد كبير من الدول العربية لا نجد اختلافات كبيرة عن تلك المناهج التي تدرسها التنظيمات المتطرفة لاتباعها من ناحية إقصاء الآخر، والنظرة الحصرية الضيقة، والزعم بتمثيل الدين النقي، وسوى ذلك. وفي الحقيقة فإن ما تضيفه الداعشية على ما يتلقاه كثير من الطلاب في المدارس الرسمية العربية هو استخدام السلاح والتفعيل العملي لما كانوا قد تعلموه نظرياً وتشغيله في الميدان.
ترافقت تلك البنية المحلية في الخطاب الديني والتعليمي مع فشل حكومي ودولتي بارز في المنطقة لجهة استكمال بناء مجتمعات ناجعة اقتصاديا وعلميا، وناجحة في مواجهة الاعداء الخارجيين وخاصة اسرائيل، ومتحدية للاطماع الدائمة للقوى الكبرى في ثروات البلدان. ثم جاءت ثورة الخميني لتزيد من خصوبة ارض التطرف وتتحدى الخطابات السنية المتطرفة بخطاب شيعي اكثر تطرفا، وتتوعده بتصدير الثورة وتصيير امامها اماما على كل المسلمين سنة وشيعة. وهكذا تفاقمت كل الظروف المستقبلة والموائمة للطائفية التي نعيشها اليوم، خاصة بعد حرب العراق وانفلات الغول الطائفي فيه، بما خلق كل التحالفات والبيئات المطلوبة والاسباب الداخلية والخارجية لإنتاج ونموالداعشية.
والنتيجة الكارثية التي نحياها ونشهدها اليوم بإمتياز تقود الى وضع اكثر كارثية. وليس من ثمة حل بعيد الامد امام شعوب وحكومات ودول المنطقة الا الابتعاد الحقيقي والفاعل، وبعد الشواهد التي تفوق الحصر الآن، عن خطورة ودموية خلط الدين بالسياسة. هذا الخليط متفجر ولغم دائم الاشتغال ولا يتوقف عن قتل وحصد مستقبلات الافراد والشعوب. والعلمانية التي انقذت الغرب من ويلات الحروب الدينية وقرونها الطويلة هي وحدها التي ترسم حدود الاحترام بين السياسة والدين الى الحد الممكن والنازع لفتيل الانفجارات المتتالية. كل من يستلم السياسة بإسم الدين سوف يزعم ان السياسة التي يقوم بها هي دين ولخدمة الدين. وكل من يمسك الدين وعينه على السياسة فإن كل ما يقوم به من دين يستهدف به اجندته السياسية، وبالتالي يغرق الكل في ما نشهده من غرق. التحدي الكبير الذي يواجه هذه المنطقة هو ان لا تكرر تاريخ اوروبا وتحاول ان تهرب من السيناريو الداعشي المظلم الذي ينتظرها وهو الحرب الدينية الطويلة. إنه تحدي العقلاء كي يقفزوا الى دفة القيادة وينحوا دواعش السنة والشيعة وينقذوا السفينة من الغرق المحتم.