خالد الحروب
هل ختان الإناث "خصوصية ثقافية" لبعض المجتمعات الإفريقية والإسلامية، ويعبر عن تقاليد متوارثة وراسخة وله رمزية اجتماعية تشير إلى انتقال الأنثى من مرحلة إلى أخرى، أم أنه ممارسة وحشية ينبغي إدانتها ومحاربتها باعتبارها اعتداءً على أجساد إناث قاصرات لم يشاركن في اتخاذ القرار بحق أجسادهن، وذلك تبعاً لمنظور جمعيات حقوقية كثيرة؟ وهل التمسك بختان الإناث تعبير عن "الأصالة" والتمسك بالثقافة المحلية، ورفضه ومحاربته يعتبر "تغريباً" للمجتمع المعني وتخلياً عن القيم المحلية والثقافة السائدة؟ يشير هذا المثال إلى الجدل المعقد والمستمر حول مسألة مهمة ودائمة الحضور الاشتباك الدائم بين القيم والثقافة المحلية والقيم والثقافة الإنسانوية أو الكونية، وحول خطوط التماس بين منظومتي القيم. بمعنى آخر، هل هناك قيم إنسانية تتوافق عليها الثقافات والحضارات المختلفة، مقابل قيم وممارسات خاصة بكل ثقافة ومجتمع ولا ينبغي للحضارات السائدة والقوية في أي زمن ما أن تحاول تغييرها؟
الإجابة على هذا السؤال النظري تبدو سهلة ومباشرة، لكن التعقيد يأتي دوما في الحالات والأمثلة التطبيقية حيث تختفي الحدود التي تكون واضحة عند النقاش النظري، وكما يوضح مثال الختان التطبيقي.
تزداد حدة المسألة وتشابكها عندما تُتهم القيم التي حملها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بأنها قيم غربية، تركز على حقوق الحريات الفردية مقابل الحقوق العامة للمجتمعات والشعوب.
بعيداً عن مثال "ختان الإناث" هناك قائمة طويلة من الأفكار والقيم والممارسات التي يدافع عنها منظرو "الخصوصية الثقافية" بكونها خاصة بمجتمعات معينة، ويجب ألا تخضع لأية منظومات قيم قادمة من خارج السياق الثقافي المحلي الخاص بتلك المجتمعات.
أطروحة "الخصوصية الثقافية" تظل حاضرة بقولة بكونها الأطروحة الأثيرة لمجاميع عريضة من المنظرين والمثقفين الذين ينطلقون من أرضيات مختلفة وأحياناً متناقضة لكنهم يلتقون على أرضيتها.
على مربع "الخصوصية الثقافية" يلتقي أصحاب الأيديولوجيات الدينية والتقليدية والمحافظة، كما يلتقي أعداء "الغربنة" سواء قدموا من خلفيات يسارية راديكالية أم غيرها.
وهناك، أي في نفس المربع يلتقي الجميع مع مثقفي ومنظري الدفاع عن الوضع القائم سواء أكان اجتماعياً أم اقتصادياً أم سياسياً، يتحد هؤلاء جميعاً ضد "القيم الوافدة" في دفاع مستميت عن "التقاليد" وما هو قائم، وهي عملية رجعية في جوهرها ومناقضة لمنطق وواقع الحداثة والتحديث الذي تعيشه تلك المجتمعات جميعاً، والتي تعتد بخصوصياتها الثقافية.
تصبح هذه الأخيرة قيداً يكبل أي مشاريع تقدمية، وفي وضع كالذي نعيشه حيث سيطرة الإعلام المشبع بمكونات الخصوصيات الثقافية، يؤول المجتمع بأسره إلى حال كاريكاتوري متشتت بين مظاهر حداثة رثة، وخصوصيات ثقافية تحبط المجتمع وتشل حركته.
تاريخياً وفي قلب جدل الحداثة وما حولها ثارت معركة لم تهدأ حول مفهوم "التقدم" (progress)، وبحسب الحداثة الكلاسيكية تسير المجتمعات من أشكال تقليدية وما قبل حديثة في بناها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والدينية، إلى أشكال حديثة ووفق مسار خيطي.
في البنية التقليدية وما قبل الحديثة تقوم العلاقات على الولاءات الغريزية، ويتكلس الاقتصاد على نحو بدائي وغالباً زراعي، وتظل السياسة استبدادية غير تشاركية، وتكون للأديان والغيبيات السيطرة الثقافية على الفضاء العام.
كلما تقدمت المجتمعات وفق المسار الخيطي، تبعا لنظرية الحداثة، تتخفف من كل تلك الأثقال، حيث تتحول ولاءات الأفراد فيها إلى الأوطان والدول، وتخفت الإثنيات والطوائف، ويصير الاقتصاد إنتاجياً وصناعياً، والسياسة تقترب من المشاركة الديمقراطية، كما تنحسر وطأة الأديان والغيبيات على الفضاء العام.
خلال هذه السيرورة طويلة المدى يُعاد تعريف الفرد من: "من انت" (بمعنى إلى أية قبيلة أو طائفة أو دين تنتمي)، إلى "ماذا تعمل" (بمعنى ما هي مهنتك أو إنتاجك أو إضافتك الحقيقية للمجتمع، بغض النظر عن اصلك). هناك تفاصيل أخرى كثيرة مرتبطة بهذا الجدل لا تحتملها وقفة سريعة كهذه.
لكن ما يتوجب التأمل فيه هو النقد الشرس الذي تعرضت له فكرة الحداثة وما تستبطنه وتعلنه من حتميات تاريخية تفترض انتقال المجتمعات والبلدان من مرحلة متأخرة معينة إلى أخرى متقدمة، وبشكل خيطي، على مدرج التقدم.
كل المجتمعات تسير على هذا المدرج ولو بسرعات متفاوتة، ومآلها النهائي هو الحداثة والتحديث الليبرالي تحديداً لأنه ليس هناك أي مستقبل عملي وحقيقي آخر للبشر، كما نظر فرانسيس فوكوياما بعد انهيار الشيوعية.
جزء من النقد الشرس لفكرة "التقدم" يقوم على ضرورة احترام "الخصوصيات الثقافية" للمجتمعات، وعدم الخضوع للمنطق الحداثي الذي يفرض عليها تبني قيم "غربية" وغريبة عنها، بالإضافة إلى الإقرار بأن ما يناسب مجتمعاً ما وينجح فيه ليس بالضرورة مناسباً للمجتمعات الأخرى وحتمية نجاحه فيها.
في الشكل العام يبدو هذا النقد موضوعياً وصائباً، لكن في التطبيقات العملية وآليات استغلاله كما شهدها العالم خلال القرن الماضي على الأقل، نقرأ قصة ثانية تماماً.
أطروحة "الخصوصية الثقافية" براقة ومغرية لكنها توفر مسوغاً فعالاً لتفادي الانخراط في عمليات الانفتاح السياسي والثقافي والاجتماعي، وهي أطروحة تفترض أن الحداثة سوف تقوم بمسح كل الخصوصيات الثقافية وتسوية الأرض الاجتماعية عولمياً، وإزالة كل المميزات بين الشعوب. هذه الفرضية المُتوهمة هي عملياً ما يمنح فكرة "الخصوصية الثقافية" قوتها الإضافية، رغم أنها فرضية هشة ولا علاقة لها بالواقع.
لا إزالة الفروقات الثقافية بين الشعوب والجماعات مطلوبة ولا هي ممكنة أصلاً.
لننظر إلى الفرق بين الثقافتين الفرنسية والأميركية مثلاً، وكلاهما يقع في قلب الحداثة الغربية، لكن التنظير للخصوصية الثقافية يأتي في الغالب من تلك الدوائر التي تدافع عن "الوضع القائم" وما يمنحه من مكتسبات لنخب محددة، فمثلاً ثمة قراءات تقول، إن الديمقراطية لا تناسب المجتمعات العربية أو غير الغربية لأنها تتناقض مع خصوصياتها الثقافية، أو فكرة الدولة المدنية العلمانية القائمة على فصل السلطات لا تناسب هذا المجتمع أو ذاك، لأنها غربية ولا تتواءم مع المجتمعات غير الغربية، أو إن فكرة حقوق الإنسان برمتها ورغم مكوناتها المختلفة، التي تدافع عن حريات الأفراد وتساوي بينهم، لا تناسب المجتمعات غير الغربية.
على هذه الأطروحات العتيدة تعتاش كل الممارسات التي تحبط المجتمعات، ويتوسدها مثقفو ومنظرو الدفاع عن الوضع القائم، ويتظلل بها الاستبداد دوماً.