خالد الحروب
لا ينفك ساحر الصحراء المكرس، هذا الـ "إبراهيم الكوني"، عن تقليب كثبان البيد التي لا منتهى لها والتنقيب عن حكايات مذهلة.
بعد طي الصفحة الأخيرة من كل رواية من رواياته السابقة، الصحراوي منها والطارقي، الإنسي منها والجني، يحتار القارئ إن كان بقي في فيافي حبره مزيد من الحكايا.
في "التبر" يأتي جواب هادئ وسريع لا يحفل بضجيج السؤال أصلا. في هذا النص السردي المغزول بحوافر جمل أمهري أبلق بالغ الجمال، نتمدد مع كون الكوني، ونعاود الدخول عتبات الغموض: نحس بالارتواء رغم أننا نواجه في النص خطر الحتف من دون أن نحتمي بتعويذة متعة القراءة، ونحتمي من العطش، "قدر الصحراء الخالد".
لوهلة، كأنما نقرأ ذات القصة التي يعبرها أهل الأرض المفتوحة على المجهول مرة أخرى: مطاردة العشب والحياة، التوهان في حب حصان أو جمل أو غزالة، اختلاط حركة الجن مع الرمل وخجل الشمس من الطلوع، مبارزات الوفاء والنبل ضد الغدر والخيانة، وأولاً وقبل كل شيء انصياع صحارى الطوارق وحياتهم وحكمتهم وغموضهم لنمط القيادة الأمومي في حياتهم، يختفون ورءا ألثمتهم، وتتأملهم نساء قويات الشكيمة، خجولات الروح، يحملن الكون على رموش العين، لكنهن باذخات في العشق والفراش.
في القرن التاسع عشر تأتيهم أهوال الغزاة البيض من الشمال، فيقوم في وجههم أخنوخن، زعيم قبيلة آزجر، وشيخ قبيلة امنغساتن يقود معارك طاحنة ضد الهجمات الفرنسية التي كانت تستهدف التوغل في الصحراء الكبرى والسيطرة على تجارة القوافل.
تاريخه الأسطوري والمائة عام التي عاشها تركت إرثا فائضا بالفخار والعزة في قلب ووجدان حفيده أخيد.
يمر بصحراء أخيد زاهد شنقيطي متجه إلى الحج تاركا خلفه الدنيا ومراكش وآلياً على نفسه البقاء إلى جانب قبر الرسول بقية حياته. يترك له جملا رشيقا نادر الوجود، أمهري الأصل، أبلق الجسد واللون.
سرعان ما تتطور علاقة حميمية فريدة بين أخيد والجمل الرشيق. يذرعان الصحراء معاً، ويقومان بغزوات عاطفية ليلية معاً، كأنما جاءا من عالم واحد.
الأمهري الأبلق يُصاب بالجرب ويبدأ بفقدان لونه وبهائه، فيجن جنون أخيد.
يحاول علاجه ولا يترك وصفة إلا طبقها، ينصحه الولي يوسف بأن الدواء الوحيد يكمن في صحراء آسيار وثمارها، لأن فيها ألف دواء. صحيح أن نتيجتها قد تكون الجنون مع الشفاء، لكن ليس ثمة علاج آخر.
يأخذ أخيد جمله إلى تلك الصحراء "قرعات ميمون" وينقذه بعد أن كان على حافة الموت، في رحلة شفاء أقرب إلى اكتشاف الموت.
ففي قلب تلك الصحراء بدأت الرحلة تلك بدعاء أمام نصب لإله قديم. البعض قال إنه لصحابي مات عطشا في الصحراء، والبعض قال إنه لإله صحراء غير معروف التاريخ.
هناك قدم أخيد نذرا أن يذبح جملا سمينا إن شفي جمله الأبلق. لاحقاً، يكتشف أخيد أن ذلك النخب انما هو لإلهة الخصب والتناسل الليبية القديمة تانيت، وقد احنث وعده لها بعد شفاء الابلق، ولم يذبح ما وعد. ما مر به من كوارث لاحقة ينسبها إلى حنث الوعد، كيف يفعل وهو حفيد اخنوخن.
ينخرط الجمل في طريقه إلى الشفاء في نوبة صرع مؤقتة فينطلق بلا بوصلة في الصحراء صاعدا هضابا ونازلا اخرى، واخيد يلهث وراءه خشية ان يفقده، يسيل دم الاثنين على الصخور والارض خاصة بعد ان يربط اخيد ذراعه اليسرى بذيل الجمل حتى لا يفترقان في الصحراء والركض.
يتمزق جسد أخيد ويغيب عن الوعي من التعب والعطش والشمس. يصلان إلى بئر مهجورة ويتدلى فيها أخيد، لكن ذيل الجمل ينقذه من الموت، حتى يحافظ على رشاقة الجمل ولونه وبهائه يقترح عليه الشيخ يوسف إخصاء الجمل، لأن الطهارة تمسح ما اقترفه الجمل سابقا من غزوات عاطفية.
بالإخصاء تتم الطهارة، هكذا يضعنا نص الكوني أمام خيارات الحياة اللئيمة. العاشق يرتب عملية إخصاء العشيق، بعد أن تآخيا في رحلة العذاب تلك، وقد حضنا بعضهما البعض واختلط دمهما بدم بعض.
في تلك اللحظة، لحظة اختلاط الدم بين الانسان والحيوان، تنتقل العلاقة من الصداقة إلى "التآخي" بحسب قانون الصحراء.
يتعرف أخيد إلى ايور الفتاة الجميلة ويتزوجها وينجب منها. وهنا، يواجه أخيد خيارا لئيما آخر: يغرق في "وهق الزوجة ودمية الأولاد ووهم العار"، ويخسر حريته السابقة مع الجمل الأمهري.
زوجته الجميلة هي هوى تاجر تبر من عائلتها، ظل يحوم حولها لتطليقها من أخيد والزواج بها. يهبط وقت مجاعة مخيف يقصف الأعمار والحيوات، ويهدد عائلة أخيد بالموت جوعا. يستغل تاجر التبر وقت المجاعة ويأخذ جمل أخيد رهنا مقابل أن يعطيه جملين يبيع أحدهما ويشتري بثمنه طعاماً لزوجته وأولاده، وبالثاني يشتغل يوميا مقابل بعض المردود.
يشتاق اخيد للجمل الأمهري الأبلق، لماضيه البهي والحر، ويحاول استعادته، لكن مالكه الجديد يشترط عليه تطليق زوجته إن أراد الحصول على جمله الذي يحبه.
في النهاية لا يصبر على فراق الجمل ويقبل، ويتخلى عن زوجته وأولاده. تاجر التبر الذي يظفر بالصفقة يهديه مقدار كفين من التبر عقب ان يأخذ جمله الأبلق. ويقول له إن الناس تموت من اجل التبر، وان ما يقدمه له مجرد هدية.
يذهب أخيد بأبلقه ليعيش في بقعة محظوظة بالعشب والكلأ مع جمله، ويحس بالطمأنينة واستعادة الحرية والانفكاك من القيود: الزوجة والأولاد وشبح العار. لكن تصدمه شائعة قاتلة تكون قد انتشرت عنه بأنه باع زوجته وأولاده من أجل حفنتي تبر.
يتجلل بالعار بينه وبين ذاته، ولا يعرف النوم. يذهب الى تاجر التبر ويقتله أثناء اغتساله في نبع قبيل عرسه. يصبح رأسه مطلوبا. أقارب التاجر الطامعين في إرثه يجب عليهم اولا غسل العار وقتل من قتله قبل أن يبدؤوا بتقاسم الإرث بينهم. يموت اخيد وجمله الأبلق، بعد أن كان قد طبق قانون صحراء عميق يقول: "الصبر إله العطش".
مات وهو يحلم بأن يعود حراً في صحراء فيها من العبودية "للأوهاق" بمثل ما فيها من حرية.