خالد الحروب
التمديد الطويل للمفاوضات الايرانية الغربية (خمسة زائد واحد) حول الملف النووي إلى شهر تموز القادم يعد بالتأكيد نجاحا ايرانيا كبيرا. هذه المفاوضات هي في العمق والجوهر مفاوضات ايرانية مع الولايات المتحدة (اي واحد زائد واحد)، وتبدو بقية الدول الغربية تابعة لما تقرره واشنطن. لكن كيف يمكن ان توافق واشنطن مرة تلو الاخرى على تمديد المفاوضات مع الدولة «المارقة» وهي والجميع يعلمون ان طهران تشتري الوقت لأهدافها الخاصة. ليس ثمة اجابة مباشرة او سهلة على هذا السؤال, كما ان ليس ثمة اي سذاجة عن الطرف الامريكي, ولا طبعا عند الطرف الايراني. ما يتبلور على نار هادئة هو «الصفقة الكبرى» بين الطرفين والتي احتاجت الى وقت اضافي كي تنضج مكوناتها من ناحية, والتي تحتاج الى وقت اضافي في الاقليم كي تنتهي بعض التطورات او تأخذ الاتجاه الذي يصب مباشرة في مصلحة تلك الصفقة ويتوافق معها. لا مكان للصدف هنا ولا للتساذج او التخادع، بل نحن في قلب عملية «إنتظار» الوصول إلى تلك الصفقة.
عملياً، سوف تحدد الشهور القادمة (مع نتيجة المفاوضات ومضمون «الصفقة») شكل الشرق الاوسط الجديد وموقع ايران والعرب فيه, ويصير على الجميع الانتظار حتى يتم الاتفاق التفصيلي على جوانب الصفقة والتحالف الجديد الذي ينشأ في الاقليم. ليس مهما الجدل في ما ان كانت ايران تنتزع موقعا ودورا اقليميا رغم انف الولايات المتحدة التي تبدو وكأنها ملت من المنطقة ولم يعد لديها الطاقة الكافية ولا الرغبة في متابعة كل ملف من الملفات، أم ان ذلك يتم وفق الرغبة الاميركية وتبعا لتحولات بوصلة سياساتها ومصالحها في المنطقة (وإعادة تبوصلها نحو آسيا). المهم، بالنسبة للمنطقة العربية ككتلة جماعية، وللدول العربية منفردة وخاصة دول الخليج، هو نتائج تلك الصفقة وانعكاساتها عليهم.
وتبعا لذلك، فإن السؤال الكبير هو إنعكاسات ما سوف يأتي على العرب خاصة إذا تعزز النفوذ الايراني وثبت مواقعه في البلدان التي تعزز فيها في العقد الاخير من السنين, وتحديدا في العراق وسورية ولبنان واليمن. والسؤال الثاني المرتبط بذلك يتعلق بإمكانية ام عدم امكانية القيام بأي فعل عربي جماعي او منفرد لتحديد انعكاسات الصفقة وتخفيض تأثيراتها السلبية. إيران الخامنئية قد ترث إيران الشاهنشاهية ودورها كشرطي للخليج, وهذه المرة مدفوعة بجموح اضافي مرتبط بالشيعية السياسية التي تشكل الآن المسوغ الموضوعي (المُفتعل) للمشروع الايراني برمته، وبها تطرح ايران نفسها كحامية للشيعة في المنطقة والعالم.
لا يعني ما سبق اعلان ايران عدوة للعرب فهذا غير مطلوب وغير عملي ومدمر للطرفين وللمنطقة عموماً. لكنه يعني ضرورة ان يتحرك العرب وخاصة دول الخليج ومصر في إتجاه موازنة النفوذ الايراني وتحديده وفق المصالح المشتركة، من دون ان يكون اي طرف من الاطراف فوق الطرف الآخر. وهذا يتطلب صوغ مقاربة عربية متماسكة نحو ايران تقوم على الندية واحترام السيادات ورفض التدخلات عبر الحدودية أيا ما كان شكلها ومسوغها، وخاصة المسوغ الديني. وهذه المقاربة ربما تبدأ من فهم تعريف ايران لنفسها وفهم تناقضات ذلك التعريف، او التعريفات، ثم تعزيز التعريف الذي يسهل من خلاله التعامل معها. وهنا يمكن القول ان ايران الحالية تتصارع فيها وداخلها ثلاث «إيرانات»: ال «إيران الاولى» هي إيران الوريثة للإرث الفارسي الامبراطوري المشحون بالتاريخ والذي يدفع بالبلد نحو مشروع توسعي اقليمي دائم ويرى في إيران تلك الدولة التي يجب ان تمتلك مشروعا امبرطورياً متفوقا على جوارها، وهذه ال «ايران» عابرة للحدود بالتعريف. وال «ايران» الثانية هي ايران التشيع السياسي التي اطلقها الخميني وترى في نفسها حامية للشيعة في العالم وليس فقط في المنطقة، وهي ايضا ايران عابرة للحدود ولا تحترم سيادات الدول. وال «ايران» الثالثة هي ايران الدولةـالامة اي nation state والتي تلتزم بالقانون الدولي وتحترم سيادات الدول ولا تستبطن اي مشروع ايديولوجي او امبراطوري متخط للحدود. ليس هناك حدود فاصلة وواضحة بين هذه الايرانات الثلاث كما ليس ثمة كتل داخل ايران صارمة الملامح يمثل كل منها ايرانه الخاصة به. بل هناك تداخل وغموض التعريفات حيث تبدو هذه الايرانات كثلاث دوائر تتداخل في منطقة الوسط، بما يعني اشتراكها في عناصر عديدة لكن اختلافها في عناصر اخرى.
ما يمكن للعرب وللعالم التعامل معه بسهولة اكثر وندية واحترام متبادل هو ال «ايران» الثالثة القائمة على مبدأ الدولة الامة والتي يكون مواطنوها ايرانيين بالتعريف (ولا يكون التعريف الفارسي او التعريف الشيعي هو التعريف المركزي المحدد لهوية الدولة). وهذا يتناسب ويتوائم مع دول الجوار سواء العربي او التركي ، ذلك ان كل دولة في المنطقة تنتهج سياسة خارجية وفق مبدأ الدولة الامة ولا تطلق مشروعا عابرا للحدود يهدد ايران. وبتفصيل اكثر، وعلى سبيل المثال، ليس هناك مشروع قومي عربي يهدد وحدة ايران او سيادتها او يطلب ولاء الايرانيين العرب (البالغ عددهم تسعة ملايين). وليس هناك مشروع قومي تركي عابر للحدود يطالب بولاء ملايين الايرانيين ذوي الاصل التركي. كما ليس هناك مشروع سني يتدخل في النسيج الايراني ويشتغل على السنة الايرانيين بدعوى انهم مضطهدين او سوى ذلك. وفي المقابل هناك مشروعات ايرانية شيعية او امبرطورية تقوم بالعكس وتتدخل في اكثر من بلد عربي بهذا المسوغ او ذاك.
السؤال العملي اذا والذي يحتاج الى تفكير عربي وجهد عربي وسياسة خارجية عربية يحوم حول إمكانية تعزيز ايران الثالثة، ايران الدولة الامة, التي من حقها ان تدافع عن مصالحها، لكن في اطار احترام مصالح دول الجوار. وكيف يمكن تقوية الكتلة او الكتل الايرانية في داخل الدولة والمجتمع الايراني التي تؤمن بالدولة الايرانية كدولة امة يكون التعريف الايراني، وليس الفارسي او الشيعي، هو المحدد الاهم في تشكيلها وصوغ سياستها الخارجية.