ثمة خطران يتغولان على الارض والشعوب العربية في الوقت الراهن (أضيفا إلى تغول الخطر الاسرائيلي الجاثم في ارض فلسطين والجولان ودائم التهديد). هذان الخطران هما داعش ونفوذها التوسعي, وايران ونفوذها التوسعي. هناك تشابه مذهل في المشروعين والخطرين: انطلاقهما من ايديولوجيا تصديرية "للثورة"، والهوس بالتاريخ وإعادة انتاجه, وعدم اعترافهما بالحدود الوطنية, ووجود جيوب وشرائح مؤيدة لها في البلدان العربية. الحرب على داعش وبحسب تقديرات "الاصدقاء الامريكان" قد تأخذ ثلاثين سنة, والله اعلم بعدها ماذا ستكون النتيجة هزيمة او نصر داعش! هناك غموض والغاز كثيرة مثيرة للريبة في هذه الحرب المُعلنة اعلامياً وغير القائمة على ارض الواقع بشكل حقيقي. ليس هناك اي جدية حقيقية في هذه الحرب عندما نقارنها ب "الصرامة" و"الجدية" التي اطلقت فيها الحروب الامريكية ضد العراق في حربي 1991 و2003. كل الاسئلة التي تحوم حول السؤال المركزي "ما الذي يحدث حقاً" هي شرعية ومبررة. لكن بعيدا عن الاجوبة فإن الاستجابة العربية يجب ان تنطلق مما هو قائم على ارض الواقع وعلى أساسه تقدر موقفها السياسي والاستراتيجي والمستقبلي.
الواقع يقول ان الصراع الراهن وفي التجسيد الاكثر تركيزا منه هو بين داعش من جهة وإيران من جهة ثانية. ظافرية اي من الإثنين و"انتصاره" على الآخر لا يصب بالضرورة لصالح العرب. بل إن الامر اسوأ من ذلك: ايا ما كانت نتيجة هذه الحرب, هزيمة داعش, او هزيمة إيران, فإن العرب خاسرون. إنها معادلة مخيفة حقا وبشعة ولا بد من مواجهتها. هزيمة داعش تعني تمهيد الارض وتسويتها لترسخ النفوذ الإيراني في سورية والعراق, ما لم تحدث شبه معجزة ويتم اسقاط النظام في دمشق, وهذا لم يعد على رأس الاجندة الغربية والامريكية. وهزيمة إيران وبقاء داعش مسيطرة في سورية والعراق معناه تفاقم اخطار لا حصر لها على كل البلدان العربية المجاورة: دول الخليج, الاردن, مصر, وحتى تركيا. وهذه الاخيرة, تركيا, تقف مع العرب في نفس المربع المُختنق بنتيجة الصراع: اي انها تخسر في الحالين كما العرب. كيف يمكن كسر هذه المعادلة اللئيمة التي وجد العرب (وتركيا) انفسهم فيها؟
من الصعب تقديم حل سحري, لكن من الممكن مقاربة طرح غير تقليدي يكسر طرائق التفكير والسياسات القائمة في العواصم العربية, وخاصة الخليجية, وانقرة, ويفتح امامها خيارات جديدة. يقوم هذا الطرح على إقامة تحالف عربي ـ تركي فوري, قد يكون نواة نظام امن اقليمي مستقبلي, وتكون فكرته الاساسية وقف تمدد المشروعين الآخرين: الداعشي والايراني. طبعا هناك تخوفات كثيرة وفي عواصم عربية وخليجية عديدة من الدور التركي نفسه, وبعضها محق, لكن في التحليل النهائي وفي مقارنة المخاطر هناك فرق كبير في ما تمثله المخاطر والتهديدات المفترضة القادمة من تركيا و تلك الاخطار والتهديدات الحقيقية والفعلية القادمة من داعش وإيران. فضلا عن ذلك فإن اي تقارب وتحالف يجب ان يقوم على فتح كافة الملفات وتطهير الشبهات والتخوفات, والاتفاق على مواجهة المخاطر المشتركة. وفي المقارنة بين "المخاطر التركية" وتلك الايرانية والداعشية يصعب القول بأن هناك "مشروع تركي توسعي" يشتغل على الارض يمكن مقارنته ب المشروع الايراني التوسعي الذي يتباهى اليوم بالسيطرة على اربع عواصم عربية, او بالمشروع الداعشي الذي يريد ان تتوسع خلافته لتقضم وتلتهم ما تستطيع التهامه من بلدان عربية. صحيح ان تركيا الاردوغانية حليفة قوية ل "الاخوان المسلمين" في المنطقة العربية وانها تتضامن معهم وتدعمهم في هذه الدولة او تلك, لكن هذا لا يرتقي الى مستوى "المشروع" ويبقى في حدود "التدخل في الشؤون الداخلية" التي يمكن معالجتها ولجمها. لكن معالجة مسألة "الاخوان المسلمين" وتنظيماتهم في المنطقة تقع ايضا في قلب اي تفكير خلاق غير تقليدي, وسوف تتعرض لها هذه السطور بعد حين.
على مستوى الصورة الاقليمية العامة ثمة فراغ قيادي بالغ الخطورة وهو الفراغ الذي تقفز فيه القوى الاقليمية المتحفزة: اسرائيل, إيران, وتركيا. الحل الاستراتيجي بعيد المدى الذي يضبط نوازع واطماع القوى الاقليمية هو قيام نظام امن اقليمي يرسم الخطوط الحمراء امام كل الاطراف, وفي نفس الوقت يطمئنها إزاء بعضها البعض, ويرتب الاولويات الأمنية لكل منها. لكن ذلك ما زال بعيدا عن التحقق في الوقت الراهن, وإلى ان يتم ذلك او غيره من مأسسة للأمن الاقليمي ليس امام العرب إلا مواجهة المخاطر والمصائر التي تتنتظرهم. ويجب البدء بدول مجلس التعاون الخليجي. فدول الخليج ومن خلال مجلس التعاون بقيت هي المنظومة الاقليمية الوحيدة شبه المتماسكة في النظام العربي, ويجب منع تفككها, وإيلاء الحفاظ على مجلس التعاون اولوية قصوى, برغم عيوبه الكثيرة وعدم تحقيقه لآمال الكثيرين. والمعنى العملي والمباشر لذلك هو إنهاء الخلاف الداخلي مع دولة قطر وعودة سفراء الدول الثلاث الى الدوحة اولاً, ثم تعميق التنسيق السياسي والاستراتيجي والمواقفي إزاء الخطر الايراني ثانياً. فسقوط صنعاء في دائرة النفوذ الايراني يجب ان يقض مضاجع صناع القرار في الخليج وتدفعهم لإعادة ترتيب اولوياتهم وإرجاء خلافاتهم الداخلية الثانوية. ينبني على ذلك, ثالثاً, إنهاء الخلاف والتوتر المصري ـ القطري لأن كتلة مصر والخليج هي الآن القاعدة الأهم التي يمكن الإرتكاز عليها في مواجهة اية اطماع اقليمية.
وهنا تبرز مسألة "الاخوان المسلمين" وحركات الاسلام السياسي غير العنفية. فإعادة ترتيب البيت الخليجي والعربي مرتبط ب"المعركة الاقليمية" التي انخرطت فيها دول عربية عدة ضد الاخوان المسلمين وتنظيمات الاسلام السياسي وهي معركة في غير مكانها, زمانا, ومكاناً, واطرافاً. فهي تستنزف هذه البلدان وتهلك البنية الداخلية فيها في الوقت الذي من المفترض فيه ان تعمل على تقويتها لمقاومة ومجابهة الخطر الاهم والاكبر وهو النفوذ الداعشي والايراني. ليس المقصود هنا الدفاع عن الاخوان المسلمين وسياساتهم وتنظيماتهم, وكاتب هذه السطور يؤمن بشكل عميق بأن اي خلط للدين مع السياسة يدمر الإثنين معا, لكن المقصود هنا هو تقدير اولوية المخاطر الحقيقية الاقليمية واين يجب صرف وتكريس الجهد الفعلي.
تشكيلات الاسلام السياسي المشاركة في السياق السياسي والديموقراطي في عدد من البلدان العربية قد تشكل تهديدا على بعض الانظمة والحكومات, لكنها لا تشكل تهديدا وجوديا على البلدان نفسها, بينما المشروع الايراني يشكل تهديدا عارما على الدول والحكومات والشعوب. فضلا عن ذلك فإن حركات الاسلام السياسي لا تهزمها الا الشعوب وصناديق الانتخابات التي جاءت بها, وعلى قاعدة فشلها المتراكم في تقديم نموذج ناجح في السياسة والحكم كما تدل معظم ان لم نقل كل التجارب المشهودة حتى الآن (من السودان, الى مصر, الى غزة, الى افغانستان, ..., الخ). اي ان الحكم الحقيقي يأتي من الشعب نفسه وكانت كل المؤشرات والاستبيانات تشير, مثلا, الى عدم إمكانية فوز الاخوان المسلمين في الانتخابات المصرية بعد سنة واحدة من حكم محمد مرسي, ولم يكن هناك حاجة لكل ما حدث في مصر. والتركيز على هذه النقطة هنا يأتي يأتي من كون مسألة العلاقة مع الاسلاميين واحزابهم تشكل تحدياً كبيرا إزاء صوغ اية استراتيجية عربية حقيقية وفعالة لوقف الخطر الايراني والداعشي. ففي نهاية المطاف لا تقف تلك الاحزاب في معظمها, إن لم يكن كلها, في المربع الايراني بل في الجانب الآخر. والحديث عن تحالف ايراني ـ اخواني لا علاقة له بالواقع بل هو جزء من الاتهامات والنكاية السياسية.
على جانب الاسلاميين وخاصة جماعة الاخوان المسلمين وحركاتها وتنظيماتها فإن هناك ضرورة ملحة وعاجلة للإنخراط في مراجعات فكرية وسياسية عميقة, تقدم مصالح الاوطان على المصلحة الحزبية, وتقدم اولوية التوافق الوطني على الإنفراد بالرأي والحكم. وعلى رأس المراجعات المطلوبة مسألة البعد غير الوطني لهذه الاحزاب وعلاقاتها "ما فوق الدولتية", اي ان انتماءاتها للايديولوجيا وللجماعة الام تتقدم على انتماءاتها لأوطانها بما يكرس مخاوف وشكوك الاطراف الوطنية بها. والحل الامثل هنا هو الغاء اي شكل من اشكال "التنظيم الدولي" بل وشطب وتغيير اسم "الاخوان المسلمين" لأنه صار مصدر استفزاز لقوى وطنية وحكومات, وعوضا عن ذلك اعادة تشكيل احزاب وجميعات وطنية بحتة تكون مرجعيتها وطنية وداخلية وليس خارجية.