مرّات، في غير فصل الشتاء، وفي أيام الجمع بالذات، زمرة أصدقاء يلبُّون دعوة صديقهم عبد المجيد إلى غداء شواء في قريته شقبا، على مبعدة قليلة من هذا «الخط الأخضر».
تصرّمت 17 سنة على الانتفاضة الثانية، وتبقى ذيولها موسومة على مدخل قرية محفّر طيلة هذه السنوات، كان يصل قرية مصنّفة «ب» بشارع رئيسي يصنّف «ج».
في مطلع المدخل بوابة معدنية متحركة مهجورة الآن، منذ استبدلها الجنود بحاجز من الصخور والركام. الوصلة مدخل طوله 100م بقيت محظورة على تعبيدها بالإسفلت. بقيت شعارات الانتفاضة على جدران القرية المستباحة بعربات الجنود لاعتقال النشطاء الجدد.
هذا أيلول المقنطر بالمناسبات، وقبل انزياح الشهر بأيام، نشرت صحيفة «الأيام» على صفحة «العدسة» صوراً عدة من وكالة «إ. ب. أ» من خربة قلقس، جنوب الخليل، حيث حاول الشباب إزالة ركام من الصخور والسواتر يسدّ مدخلها منذ الانتفاضة الثانية.
بقية صور «العدسة» في ذلك اليوم 22 أيلول، كانت عن مظاهرة يوم الجمعة الأسبوعية في بلدة كفر قدوم، قرب قلقيلية لفتح منفذ رئيسي، مغلق.
بعد أيام من ذلك، فرض جنود الاحتلال إغلاقاً محكماً على بلدة بيت سوريك وقراها المجاورة، انتقاماً من مصرع ثلاثة جنود على مدخل مستوطنة «هار ادار» بمسدس سريع الطلقات خلال 6 ـ 10 ثوان. هذا من نمط انتفاضة «ذئاب منفردة» منذ تشرين الثاني 2015 وحتى أيلول الجاري.
مرة أخرى، عقوبات جماعية على مبادرة فردية مسلحة، وفي سياقها جمّدت الحكومة الإسرائيلية مقترحاً أميركياً لمبادرات «حسن نيّة» إسرائيلية، من بينها شق طريق إلى مدينة روابي، وأيضاً توسيع مخطط هيكلي لمدينة قلقيلية.
مرّة أخرى، ربط نتنياهو عملية «هار ادار» بسياسة السلطة، وبالذات خطاب رئيسها في دورة الجمعية العامة هذه السنة.
في أيلول من هذه السنة، احتفل نتنياهو وحكومته بنصف قرن على بدء الاستيطان. كان الاحتفال الإسرائيلي باهتاً؛ وكان الاحتفال الفلسطيني بنصف قرن على الاحتلال عابراً في زحمة المناسبات الأيلولية، حيث تركّز الاهتمام بخطة صلحة أخرى بين جناحي السلطة، ونال مرور 17 سنة على الانتفاضة، والمجزرة الأيلولية في مخيم شاتيلا اهتماماً أقل، بينما نالت خطوات متكتمة للإدارة الأميركية نحو بلورة «الصفقة الكبرى» لغطاً من الاهتمام السياسي.
منذ 17 سنة لم تتوصل السلطة الفلسطينية وسلطة الاحتلال الإسرائيلي إلى ما قد ننعته بـ»إزالة آثار الاجتياح»، الذي محا أمنياً من الجانب الإسرائيلي تقسيمات الضفة «أ. ب. ج».
لكن، خلالها، أيضاً، تطور الوضع السياسي الدولي للسلطة إلى عضوية مراقب في الجمعية العامة، ومؤخراً هذا الشهر، صارت عضواً كاملاً في الشرطة الدولية (الانتربول) رغماً عن إسرائيل والولايات المتحدة.
هل تذكرنا جولات غرينبلات وكوشنر بجولات المبعوث الدولي غونار يارنغ، والأميركي وليم روجرز من حيث ربط التسوية في فلسطين بالسلام الإقليمي العربي ـ الإسرائيلي؟
من سنوات وايام جولات يارنغ ـ روجرز خاض الفلسطينيون ثلاث انتفاضات مختلفة: شعبية أدت إلى أوسلو؛ ومسلحة ألغت الفوارق بين تقسيمات (أ. ب. ج) وفردية لعلّ أقرب وصف لها قاله الملاكم العالمي الأسود محمد علي كلاي : «طِر مثل الفراشة والسع مثل نحلة».
في الانتفاضة الشعبية الأولى، سأل رابين جنرالاته: «هل لديكم حل عسكري للانتفاضة»؟ قالوا: «لا». في الانتفاضة المسلحة الثانية كان جواب شارون هو الاجتياح الذي لم تُمحَ آثارُه حتى الآن.
عن عرفات قالت إسرائيل: إنه «لا ـ شريك» وعن عباس قالت: «صوص بلا ريش» وبعد الانقسام صارت تقول: «غير ذي صلة».. والآن، تُحمِّله مسؤولية العمليات الفردية، حتى في المنطقة (ج) وهجمات مدنيين على الجنود من مسافة متر بالسكاكين والسيارات والرصاص باعتبارها «عملاً إرهابياً» على «السلطة التي ليست سلطة» أن تدينها وتشجبها!
تأمَّلتُ الصور من خربة قلقس فإذا هي ليست خربة بل بنايات سكنية لا تقلّ عن مبانٍ في المدن، وقد تكون رُفعت مبانيها في الفترة من أيلول 2000 إلى أيلول 2017، ولو «بناء غير مرخص» في المنطقة (ج).
زمان، في مرحلة الكفاح المسلّح، كان عرفات يقول: «نحن الرقم الصعب في معادلة الحرب».. الآن، بعد ثلاث انتفاضات مختلفة الأساليب، وبعد أيلول 2000 يمكن لعباس أن يقول إن دولة فلسطين المعلنة هي الرقم الصعب في معادلة السلام الإقليمي.
لتكن أحوال العراق وكردستان ما تكون، وأحوال الصراع السوري، وخلافات الرباعية العربية الأخرى مع قطر، وحرب التحالف العربي في اليمن.
تبدو فلسطين في هذه الأحوال العكرة تحاول مصالحة أخرى، بينما الرباعية الدولية والأمم المتحدة، بل والولايات المتحدة، تدعم إنهاء الانقسام، ويحاول القائد يحيى السنوار انقلاباً داخلياً في «حماس» لإلغاء الانقلاب وذيوله، شرطاً لإلغاء ذيول الاجتياح في العام 2002.
«صفقة» ايهود باراك في كامب ديفيد 2000 لم تنجح، وصفقة إيهود اولمرت عام 2006 لم تنجح، والآن صفقة ترامب لربط السلام النهائي في فلسطين بالسلام الإقليمي، الذي بدأ بفشل حرب العام 1973 لإزالة آثار عدوان 1967.