الحكومة اللبنانية اليوم رهينة تبلور لعبة المقايضة في فصولها الأولى، ويمثل الأمنُ الإسرائيلي أول هذه الفصول، بدأت الترتيبات في الجنوب السوري وانتقلت إلى غزة، فهل يكون لبنان جائزة إسرائيلية لمن وفر لها الضمانات على الأرض؟
لم يحن بعد موعد خروج الحكومة اللبنانية إلى الضوء، العراقيل التي تحول دون تشكيل الحكومة اللبنانية لا تزال هي الأقوى بعد أكثر من مئة يوم على الانتخابات النيابية، ولا تبدو في الأفق مؤشرات على موعد قريب لتشكيلها.
إزاء هذا الواقع الذي تؤكد جهات عربية رسمية استمراره لمدى غير قريب، لا تعود أسبابه فقط إلى عوائق داخلية تقوم على محاولة حزب الله ترجمة ما يعتقده من أن نتائج الانتخابات النيابية قد أفرزت أكثرية نيابية لصالحه ويجب أن تترجم في الحكومة انتقالا إلى السيطرة الأمنية والعسكرية التي حققها على امتداد لبنان، إلى الحكومة عبر شبكة من الحلفاء يجب أن تحظى بتمثيل حاسم لجهة السيطرة على القرارات الحكومية.
المصادر الرسمية العربية التي تراقب المشهد اللبناني من دون أن يكون لها تأثير ولا تدخل في المشهد السياسي اللبناني تعتبر أن التغيير الذي نتج عن الانتخابات النيابية، كان يتركز بالدرجة الأولى على تيار المستقبل الذي تراجع تمثيله إلى الحد الذي استطاع فيه حزب الله بالدرجة الأولى والنظام السوري بدرجة أقل على قضم عدد من مقاعد النواب السنة، ولم يكن هذا فحسب بل فرضت طبيعة قانون الانتخاب من حيث اعتماده النظام النسبي، على تيار المستقبل التحالف مع قوى أو شخصيات طالما كانت تعتبر في صف النظام السوري ولاسيما في منطقتي عكار والبقاع الأوسط، وهذا ما خلص إلى أن تيار المستقبل وجد نفسه بعد الانتخابات النيابية أمام حقيقة وجود عشرة من النواب السنة من أصل سبعة وعشرون هم خارج دائرة تمثيله، بخلاف ما هو حاصل في دائرة حزب الله وحليفه الرئيس نبيه بري اللذين استحوذا بالكامل على التمثيل الشيعي.
تراجع تمثيل تيار المستقبل النيابي الذي لا يعني بالضرورة تراجعا بنفس النسبة ونفوذه السياسي، بل إلى طبيعة قانون الانتخاب الذي نجح حزب الله وحليفه الرئيس ميشال عون بإقراره واعتماده والذي كان معروفا أن هذا القانون لا غايات إصلاحية من ورائه كما جرى الترويج له، بل فرض تغيير في المعادلة النيابية لصالح محور إيران في لبنان بالدرجة الأولى.
ورغم التقدم الذي أحدثه تمثيل القوات اللبنانية في تمثيلها النيابي إلى حدود الضعف، فإن ذلك ترافق مع خسارة استراتيجية تمثلت برأي المصادر الرسمية العربية في منع تيار المستقبل والقوات اللبنانية ولأسباب مختلفة أخرى من خوض الانتخابات كحليفين من ضمن تحالف أوسع على المستوى الوطني.
وعلى الرغم من أن النتائج الانتخابية قد أفضت إلى نتائج لصالح التحالف الذي يقوده حزب الله فإن واقع الحال يقودنا إلى أن عملية تشكيل الحكومة تكشف عن واقع أن التحالفات ليست على هذه الصورة من التبسيط الذي يقودنا إلى أن اللبنانيين أمام محورين متصارعين داخليا ويتمتعان بدعم خارجي وكل منهما يسعى إلى مشروع في مواجهة الآخر.
القراءة السياسية للمشهد اللبناني ومن خارج الاصطفافات، تشير إلى أن لبنان ساحة لتنافس وصراع إقليميين يقومان على أولوية غير لبنانية، ويعكس تراجعُ الدور العربي تراجعا للأولويات اللبنانية في هذا الصراع.
واذا كانت إيران لا تزال هي القوة الأبرز إقليميا في لبنان، فإن أدوارا أخرى لا يمكن تغييبها عند قراءة ما يجري في لبنان، إذ لا يمكن التقليل من شأن الدور القطري الذي يتقاطع مع الدور التركي من جهة ومع الدور الإيراني من جهة ثانية، فقطر التي يحظى دورها برضاء أميركي في لبنان تعمل على تمتين العلاقة مع الرئاسة الأولى من خلال تحول قطر إلى حاضنة أعمال وممول للعديد من المشاريع لمؤسسات وأفراد ينتمون إلى التيار الوطني الحر، كما تلعب قطر دورا في استقطاب وتمويل شخصيات ومؤسسات إنسانية وإعلامية قريبة من حزب الله، في موازاة ذلك يلعب التمويل القطري دورا أساسيا في تنشيط العلاقة التركية مع لبنان من خلال دعم وتنشيط مؤسسات وجمعيات في الوسط السني في مواجهة السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة.
كما أن الإدارة الأميركية التي لا تزال تعتمد العقوبات المالية على حزب الله من جهة، وعلى تعزيز التعاون مع الجيش اللبناني من جهة ثانية، تسعى إلى المحافظة على الاستقرار على الحدود الجنوبية، وهو ما نجح حزب الله في توفيره وعدم الإخلال به طيلة سنوات طويلة، فيما تبقى بعض الملفات المتصلة بمتطلبات استخراج الغاز من الحقول البحرية اللبنانية ولا سيما الاتفاق على ترسيم الحدود مع إسرائيل هو الملف الذي يجري إعداده بعيدا عن الأنظار وبإشراف أميركي، وهو ملف يتقاطع مع ملف التجديد لقوات الطوارئ الدولية (اليونيفل) الذي تلوح واشنطن بتعديل صلاحياتها لتصبح أكثر حزما وتشددا حيال السلاح غير الشرعي.
يبقى أن الدور العربي الذي تراجع في لبنان أمام التمدد الخارجي الإيراني والتركي فضلا عن الأميركي والإسرائيلي بالواسطة الروسية أولا والأميركية ثانيا، هو أمام اختبار جديد ذلك أن سياسة إدارة الظهر أمام ما يسميه بعض الدبلوماسيين العرب “خذلان لبناني للعرب من خلال الصمت الرسمي عن تدخلات يقوم بها حزب الله في الدول العربية” وكان منها استقبال أمين عام حزب الله وفدا حوثيا في لبنان قبل أيام، فإن الموقف العربي والذي يتخذ بعدا انكفائيا يعكس وجود سياسة ترى في الانكفاء وسيلة لإعادة الاعتبار لدور لبناني مستقل خارج تأثير إيران أو غيرها، لكن الوقائع تقول إن لبنان تكمن أهميته ليس في تأثيره على حدوده الجغرافية وما بينها، بل إن مواجهة المخاطر التي تحيط بالأمن الإقليمي لا بل بالأمن الوطني للسعودية والخليج عموما باتت تتطلب عناية خاصة بلبنان تقوم على استراتيجية واضحة هدفها إعادة ربط لبنان بمحيطه العربي، وهذا يتطلب سياسة تقوم على اعتماد سياسة الاحتواء بدل الانكفاء، وعلى تحصين الخيارات اللبنانية الوطنية وبالتالي العربية، ذلك أن إدارة الظهر ستبقى هي الأخطر من كل ما عداها من سياسات أخرى، علما أن تقييم السياسات التي اعتمدت سابقا لا يمكن أن تفضي إلا إلى خيار أوحد هو الانكفاء.
تراجع الدور العربي في لبنان ستكون مخاطره أشد مما يتوقع الكثيرون ليس على لبنان فحسب بل حتى على مستوى القضية الفلسطينية التي نجحت إيران وتركيا إلى حد بعيد من خلال اتفاق غزة الأخير بين حماس وإسرائيل في إظهار قدرتهما على تمرير رسائل إيجابية لإسرائيل، فيما يحاولان إظهار أن ما يجري على صعيد فلسطين هو صفقة عربية أميركية إسرائيلية، إلى هذا الحد سمح الانكفاء العربي بجعل من يسيطر على الحدود مع إسرائيل في لبنان و”سوريا الأسد” وفي غزة قادرا على عقد اتفاقات سرية مع إسرائيل وفي الوقت نفسه تحميل الدول العربية مسؤولية ما يرتكبه.
لبنان أمام هذه التحولات على الصعيد الاستراتيجي في المنطقة أمام مرحلة مصيرية قد تفضي إلى المزيد من ترسيخ الأدوار غير العربية في المنطقة بما يجعل لبنان جائزة لمن نجح في توفير المصالح الاستراتيجية لإسرائيل وبالتأكيد فإن من يمتلك الأوراق السياسية والأمنية هو القادر على المقايضة.
الحكومة اللبنانية اليوم رهينة تبلور لعبة المقايضة في فصولها الأولى، ويمثل الأمنُ الإسرائيلي أول هذه الفصول، بدأت الترتيبات في الجنوب السوري وانتقلت إلى غزة، فهل يكون لبنان جائزة إسرائيلية لمن وفر لها الضمانات على الأرض؟
المصدر :جريدة العرب